"قلم حمرة": روح الدراما السورية التي افتقدناها

05 اغسطس 2014
سلافة معمار في لقطة من المسلسل
+ الخط -

تمضي أحداث مسلسل "قلم حمرة"، للمخرج حاتم علي، بطريقة أفقية، من دون ذرى درامية حادّة. فما تقدّمه كاتبة العمل، يم مشهدي، في الدرجة الأولى هو يوميات أكثر من كونه حكاية درامية لها بداية ونهاية. وبالتالي لا تصاعد بالمعنى المعروف في الحدث الدرامي وصولاً إلى الذروة، ومنه هبوطاً نحو الحلّ، بل هي سيرة ذاتية لـ"ورد" ورفاقها، تدور، في معظمها، خلال السنوات التي سبقت التظاهرات الشعبية ضدّ النظام السوري في 15 مارس/آذار 2014.

وتروى فصول هذه السيرة خلال فترة اعتقال الراوية "ورد"، لتنتهي مع خروجها من المعتقل وانتقالها إلى بيروت، حيث سنشهد المشهد الأخير من تلك السيرة ونتتبّع مآلات أبطالها بعد نحو ثلاث سنوات من اندلاع تلك التظاهرات.
رغم ذلك لا تبدو يوميات "ورد" ورفاقها مشغولة بما حدث خلال هذه السنوات الثلاث الأخيرة إلا في نطاق ضيّق من حواراتهم (باستثناء حوارات المعتقل). حتّى بدا ما حدث خلال هذه السنوات إطاراً لحكاية مشغولة ببحث حياتي فلسفي وبطَرق العوالم الداخلية لأبطال الحكاية وصراعاتهم مع هواجس البحث عن إثبات الذات وعن الحبّ وعن المستقبل وعن معنى آخر للعمر. وهي عوالم جميعها تضيق بأصحابها فتدفعهم حيناً إلى التمرّد وحيناً إلى الاكتئاب وحيناً إلى العبث.

تختار مشهدي تقديم أحداث تلك السيرة يوماً بيوم من دون أن تبدو في كثير من الأحيان معنية بترتيب سببيّ لها. وشخصيات كثيرة في تلك السيرة هم أشخاص مأزومون. فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن لا فصل بين الحدث والشخصيات في العمل الدرامي، نلاحظ أنّ الحدث يبدأ من الذروة وينتهي فيها هنا. وهو أمر ليس جديداً على تجربة يم مشهدي الدرامية. إذ قدّمت صور أبطالها في بداية المسلسل كما أنهته، مع فارق نسبي أحدثته مساحة التجربة اليومية التي تستنزف الروح وتعيد صياغة التجارب والرؤى الحياتية من دون أن تُحدث بالضرورة نقاط تحوّل وتغيير جذري في مساراتها.

يغيب الحدث عن "قلم حمرة" لصالح الحوار، ما يمنح سيادة كبيرة لانسياب السرد، الذي يتّسم في كتابات يم مشهدي بالعمق وبنكهة خاصّة تدعو إلى تأمّل عميق التأثير. كما يتّسم بقدرته على إثارة أسئلة حياتية بتفاصيل شديدة الخصوصية. فمشهدي تلتقط شخصياتها من محيطها الذي تعيشه وتعرف شخوصه وتحسّهم وترى مشاكلهم (لم تكتب خارج هذا المحيط إطلاقاً) وتقوم بإعادة بنائها درامياً بطريقة اليوميات. وفي "قلم حمرة" أسّست البناء الدرامي السردي انطلاقاً ممّا قد ينثره المرء (تنثره هي على وجه التحديد) على صفحته فيسبوكية مثلاً.

لا يختلف اثنان على أهمية الحدث بكامل عناصره في الدراما، لا سيما أنّه الحاضن للصراع والتشويق الدراميين. وهو ما ننتظر أن تعمل عليه يم مشهدي في أعمال مقبلة، كما نأمل أن تستطيع الخروج بحواراتها من دائرة الصوت الواحد (صوتها) الذي يكاد يهيمن على معظم أصوات أبطالها في "قلم حمرة"، وتوسيع دائرة الشرائح الاجتماعية التي تخاطبها وتروي عنها وتمسّ مشكلاتها... لكن لنتعامل في المقابل مع ما قدّمته في "قلم حمرة" بوصفه مقترحاً درامياً يخصّها، واجتهاداً. لعلّ النقاش حوله يكشف عن شكل غير تقليدي لعناصر العمل الدرامي أو للتعامل معها.

المقترح الدرامي للنصّ الذي قدمته يم مشهدي يلاقيه مقترحٌ إخراجيٌ للفنان حاتم علي. إذ يبدي الأخير في رؤيته الإخراجية تفهّماً لطبيعية النصّ وشخصياته، وقد انعكست عوالمها الضيقة بكوادر تصوير ضيّقة نسبياً. وإلى جانب السجن الذي روت فيه "ورد" حكايتها، ترسم كاميرا حاتم علي حدوداً لسجون أخرى حدّد النصّ ملامحها (البار، بيت تيم، بيت الطلاب...). وضمن مساحة هذه السجون كانت كاميرا المخرج علي تتحرّك من دون أن تبدي نزوعاً إلى فتح عين العدسة على اتّساعها. فأيّ أفق ستذهب إليه الكاميرا مع شخصيات ترى أفق حياتها مسدوداً؟

لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن تفهّم الرؤية الإخراجية لطبيعة النصّ بدا متطابقاً مع تفهّمها طبيعة المكان اللبناني، الذي يتم التصوير فيه على أنّه دمشق، وبالتالي الهروب من أخطاء قد تتعلّق بتغيير ملامح المكان والراكورات فيه.

تستعير صورة حاتم علي شيئاً من صورة السينما العالمية، الفرنسية على وجه التحديد، وهي استعارة لا تخفي نفسها، بل تعلن عن حضورها صراحة بوصفها جزءاً من لغة فنية( كثير من المخرجين السوريين اليوم يذاكرون السينما العالمية). ويبقى الحكم عليها انطلاقاً من صحّة توظيفها وقدرة المخرج على إعادة توليفها بما يخدم النصّ من دون إبهار مجّاني في الصورة.

يبقى أنّ البطولة الحقيقية في "قلم حمرة" هي للأداء التمثيلي. فإذا كانت حوارات الممثلين وأحاديثهم عن المسلسل كشفت أيّ متعة كانوا يعملون بها أثناء التصوير، فإنّ أداء هؤلاء أمام الكاميرا عكس حقيقة قدرات الممثل السوري، التي ضاعت ملامحها في القوالب النمطية ومسلسلات الوَلَه التركي التي طغت على سطح ما يُقدَّم سورياً وعربياً.

ليس "قلم حمرة" بالعمل الدرامي الكامل الذي لا تشوبه عيوب، لا سيما على صعيد النصّ، ولعلّه لن يكون العمل الذي يُحدث الفارق، على طريقة "التغريبة الفلسطينية" مثلاً، لكن ثمّة ما يستدعي التوقّف عنده، وهو روح الدراما السورية التي افتقدناها منذ زمن طويل وبات ظهورها مقتصراً على أعمال لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة... وعن تلك الروح نتحدّث.

دلالات
المساهمون