في القرى الواقعة على أطراف غابة كستناء في منطقة سالفيا ـ فينيتا، الفاصلة بين يوغسلافيا وإيطاليا، كانت مهمّة المصوّر السلوفيني غريغوري بوزيتش (1985) تصوير مَشاهد من وثائقي الكرواتي ماتياج إيفانيشن (1981)، "ألعاب الرجال" (2017). بعد عامين، عاد مجدّداً إلى المكان نفسه، لكن كمخرج وكاتب سيناريو (بالاشتراك مع مارينو غومزي)، ليحكي عن الغابة وقصصها. اختار مرحلة من تاريخها (خلال الحرب العالمية الثانية وبعد نهايتها مباشرة) شهدت تحوّلها إلى ملتقى لسكّان أطرافها الباقين فيها، وإلى ممرّ سرّي للناشدين عبوراً منها إلى الجهة الثانية من الكرة الأرضية، هرباً من الجوع والفقر والخوف من قبول فكرة "عاديّة الموت".
يقترح "قصص من غابة الكستناء" (2019) إعادة سرد بعض تلك القصص بأسلوب سينمائي آخّاذ وشاعري، تتداخل فيه الفانتازيا مع الواقعية، كما يستخدم مُصوّره، فيران براديس، عدسات كاميرتي 35 ملم و16 ملم، في اشتغال يؤشّر إلى رغبة في التجريب والتجديد، وفي تجاوز العادي.
المزج موجود حتى في لغة الحوار التي تختلط فيها السلوفينية بالإيطالية، وتجعل من النص السينمائي خليطاً متفرقاً، مشدوداً بخيط سردي واهن لا يُوصل إلى نهاية واضحة. كأنّ بوزيتش يريد به ابتكار لغته الخاصة، المتحرّرة من أنساقٍ سردية مألوفة، رغم حداثة عهده بالإخراج. ومع هذا، نال جائزة أفضل أول عمل روائي طويل، في الدورة الـ23 (15 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 1 ديسمبر/كانون الأول 2019) لـ"مهرجان أفلام الليالي السوداء في تالين (أستونيا)"، كما حصل على 11 جائزة، بينها أفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل تصوير وأفضل موسيقى (هيكلا ماغنوسدوتير)، في الدورة الـ22 (17 ـ 22 سبتمبر/أيلول 2019) لـ"مهرجان سلوفينيا السينمائي".
الموت في زمن الحرب يسود ويطغى على كلّ شيء. يدخل البيوت، ويزحف على المدن والغابات. مشهد الافتتاح المذهل، المُصوَّر من فوق "كرين"، يقود إلى الفكرة. 4 أشخاص يقومون وسط الغابة برمي أكوام من الكستناء في حفرة تشبه القبر، ثم يشرعون في دفنها وطمرها بأوراق الشجر المتساقطة في موسم الخريف.
الغابة رطبة ومظلمة. الجوّ العام، المنقولة عبره القصص، سوداوي ومعتم، ويصلح أنْ يكون خلفية لمشهد الحرب لحظة توقّفها. الحياة تكاد تنعدم على ضفتي النهر الذي يقطع الغابة ويقسّمها بين بلدين (شرق وغرب). لا أحد يجمع الكستناء إلاّ مارتا (السلوفينية إيفانا روسيتش). تريد الشابة، بعد التحاق زوجها بجبهات القتال وانقطاع أخباره، جمع بعض المال لتأمين تكلفة تهريبها إلى أستراليا. هذه إحدى القصص، التي بالكاد تتجمّع خيوطها وتتوضّح معالمها. تتكشّف جوانب منها عند تداخلها مع قصّة النجّار العجوز ماريو (الإيطالي ماسيمو دي فرانكوفيتش)، الذي تتعطّل مهنته، فيمضي وقته في مراجعة حساباته القديمة. لا يريد صرف ما جمعه من مال. يزور مقهى صغيراً، ويلعب بعض "ألعاب الرجال" مع أقرانه. يغضب عندما يخسر. في المنزل، لا يكترث بمرض زوجته. لا تُعرف قصّة ابنه الغائب إلا من خلال رسائل يكتبها ولا يرسلها إليه. بُخله يؤجّل التواصل، وفقر ماريا يؤخّر سفرها.
القصص المقتضبة تتداخل فيما بينها وتتوحّد لحظة تعرّف العجوز على الشابّة. قبلها، وبعد موت زوجته، يمضي وقته وحيداً في الغابة. ينام كميتٍ، ويحلم بملائكة الموت وهم يقتربون من سريره، ويغنّون له باللغة السلوفينية أغنية ترحّب به في عالم الأبدية. المشهد نفسه تحلم به زوجته قبل موتها. ترى الشابّة أيضاً أشباحهم وهي تقترب من زوجها.
السيناريو مشتّت، لا يتبع مساراً زمنياً محدداً. تتداخل فيه حيوات وخيالات، تتحرّك كلّها سويةً وسط مساحة غير مريحة، وشبه مهجورة. تنشط ليلاً مع تحرّك الفارّين منها إلى المجهول. تصوير ذلك الحيّز البشري والطبيعي في الظلام مُذهل في تنفيذه بعدسات حساسة، وبإنارة محسوبة بدقّة متناهية. يحقّق بها غريغوري بوزيتش معادلة نقل مشهد حياتي عام، في ظرف زمني مؤلّم، بمحمولاته النفسية كلّها.
بدخوله كوخ مارتا المعزول، يكسر العجوز جزءاً من وحدته. يكتشف عندها ما كان يجهله عن فكرة الهروب من مكان إلى آخر. في قصّة زوجها شيء من قصّة ذلك الكائن (ربما يكون ولده؟) المسافر إلى بلجيكا، الذي يرسل لأهله صوراً تُظهر رغد عيشه. بعد حين، يكتشف الأهل كذب ما كانت يُقال لهم. ظلّ ذلك الفعل (الهجرة) غامضاً بالنسبة إليه. لم يتأكّد من قوة وجوده في البشر إلاّ لحظة لقائه الشابّة، المُصرّة على ترك كلّ شيء وراءها، للوصول إلى نقطة ثانية تُنسيها حياتها في الغابة الموحشة، وذكرى زوجها. يُقرّر مساعدتها بالمال. ترحل عبر البحر إلى مكان آخر. قصّة مساعدته لها تتردّد على ألسنة الباقين في مكانهم.
مسار القصص القصيرة، المتداخلة فيما بينها، يفضي إلى عوالم فوضوية، لا منطق يجمعها. هذه مواصفاتها الجيّدة، من منظور صانعها السينمائيّ. آلام الحروب تخفّ شدّتها، والموت يُمكن الاعتياد عليه، كاعتياد طبيب القرى القريبة من غابة الكستناء عليه، إذْ يتعامل معه في زمن الحرب كفعلٍ يومي مألوف. لكنّ القصص لن تموت. تتغيّر تفاصيلها. يضيف الناس إليها من عنديّاتهم، وربما ينقصون منها أجزاء، إلاّ أنها تكتسي طابعاً آخر مختلفاً عند نقلها إلى السينما بلغة تقترب منها: خيالية تتحرّر من القوالب التقليدية. عندها، تبدو كأنّها مُصوّرة حديثاً، وكأنّها قادرة على التعبير عن أشدّ الأفكار قتامة، وأكثر دواخل البشر سوداوية. تعبّر عن انفعالات الناس في اللحظات العصيبة بأسلوب ليس بالضرورة تقليداً.
هذا ما يحاول "قصص من غابة الكستناء" تحقيقه، عبر اشتغال سينمائي "شبابي"، يؤشّر إلى بروز جيل سينمائي أوروبي يبحث عن أنساق سردية مختلفة، لا تتخلّى عن مفردات الصنعة السينمائية التقليدية.
المزج موجود حتى في لغة الحوار التي تختلط فيها السلوفينية بالإيطالية، وتجعل من النص السينمائي خليطاً متفرقاً، مشدوداً بخيط سردي واهن لا يُوصل إلى نهاية واضحة. كأنّ بوزيتش يريد به ابتكار لغته الخاصة، المتحرّرة من أنساقٍ سردية مألوفة، رغم حداثة عهده بالإخراج. ومع هذا، نال جائزة أفضل أول عمل روائي طويل، في الدورة الـ23 (15 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 1 ديسمبر/كانون الأول 2019) لـ"مهرجان أفلام الليالي السوداء في تالين (أستونيا)"، كما حصل على 11 جائزة، بينها أفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل تصوير وأفضل موسيقى (هيكلا ماغنوسدوتير)، في الدورة الـ22 (17 ـ 22 سبتمبر/أيلول 2019) لـ"مهرجان سلوفينيا السينمائي".
الموت في زمن الحرب يسود ويطغى على كلّ شيء. يدخل البيوت، ويزحف على المدن والغابات. مشهد الافتتاح المذهل، المُصوَّر من فوق "كرين"، يقود إلى الفكرة. 4 أشخاص يقومون وسط الغابة برمي أكوام من الكستناء في حفرة تشبه القبر، ثم يشرعون في دفنها وطمرها بأوراق الشجر المتساقطة في موسم الخريف.
الغابة رطبة ومظلمة. الجوّ العام، المنقولة عبره القصص، سوداوي ومعتم، ويصلح أنْ يكون خلفية لمشهد الحرب لحظة توقّفها. الحياة تكاد تنعدم على ضفتي النهر الذي يقطع الغابة ويقسّمها بين بلدين (شرق وغرب). لا أحد يجمع الكستناء إلاّ مارتا (السلوفينية إيفانا روسيتش). تريد الشابة، بعد التحاق زوجها بجبهات القتال وانقطاع أخباره، جمع بعض المال لتأمين تكلفة تهريبها إلى أستراليا. هذه إحدى القصص، التي بالكاد تتجمّع خيوطها وتتوضّح معالمها. تتكشّف جوانب منها عند تداخلها مع قصّة النجّار العجوز ماريو (الإيطالي ماسيمو دي فرانكوفيتش)، الذي تتعطّل مهنته، فيمضي وقته في مراجعة حساباته القديمة. لا يريد صرف ما جمعه من مال. يزور مقهى صغيراً، ويلعب بعض "ألعاب الرجال" مع أقرانه. يغضب عندما يخسر. في المنزل، لا يكترث بمرض زوجته. لا تُعرف قصّة ابنه الغائب إلا من خلال رسائل يكتبها ولا يرسلها إليه. بُخله يؤجّل التواصل، وفقر ماريا يؤخّر سفرها.
القصص المقتضبة تتداخل فيما بينها وتتوحّد لحظة تعرّف العجوز على الشابّة. قبلها، وبعد موت زوجته، يمضي وقته وحيداً في الغابة. ينام كميتٍ، ويحلم بملائكة الموت وهم يقتربون من سريره، ويغنّون له باللغة السلوفينية أغنية ترحّب به في عالم الأبدية. المشهد نفسه تحلم به زوجته قبل موتها. ترى الشابّة أيضاً أشباحهم وهي تقترب من زوجها.
السيناريو مشتّت، لا يتبع مساراً زمنياً محدداً. تتداخل فيه حيوات وخيالات، تتحرّك كلّها سويةً وسط مساحة غير مريحة، وشبه مهجورة. تنشط ليلاً مع تحرّك الفارّين منها إلى المجهول. تصوير ذلك الحيّز البشري والطبيعي في الظلام مُذهل في تنفيذه بعدسات حساسة، وبإنارة محسوبة بدقّة متناهية. يحقّق بها غريغوري بوزيتش معادلة نقل مشهد حياتي عام، في ظرف زمني مؤلّم، بمحمولاته النفسية كلّها.
بدخوله كوخ مارتا المعزول، يكسر العجوز جزءاً من وحدته. يكتشف عندها ما كان يجهله عن فكرة الهروب من مكان إلى آخر. في قصّة زوجها شيء من قصّة ذلك الكائن (ربما يكون ولده؟) المسافر إلى بلجيكا، الذي يرسل لأهله صوراً تُظهر رغد عيشه. بعد حين، يكتشف الأهل كذب ما كانت يُقال لهم. ظلّ ذلك الفعل (الهجرة) غامضاً بالنسبة إليه. لم يتأكّد من قوة وجوده في البشر إلاّ لحظة لقائه الشابّة، المُصرّة على ترك كلّ شيء وراءها، للوصول إلى نقطة ثانية تُنسيها حياتها في الغابة الموحشة، وذكرى زوجها. يُقرّر مساعدتها بالمال. ترحل عبر البحر إلى مكان آخر. قصّة مساعدته لها تتردّد على ألسنة الباقين في مكانهم.
مسار القصص القصيرة، المتداخلة فيما بينها، يفضي إلى عوالم فوضوية، لا منطق يجمعها. هذه مواصفاتها الجيّدة، من منظور صانعها السينمائيّ. آلام الحروب تخفّ شدّتها، والموت يُمكن الاعتياد عليه، كاعتياد طبيب القرى القريبة من غابة الكستناء عليه، إذْ يتعامل معه في زمن الحرب كفعلٍ يومي مألوف. لكنّ القصص لن تموت. تتغيّر تفاصيلها. يضيف الناس إليها من عنديّاتهم، وربما ينقصون منها أجزاء، إلاّ أنها تكتسي طابعاً آخر مختلفاً عند نقلها إلى السينما بلغة تقترب منها: خيالية تتحرّر من القوالب التقليدية. عندها، تبدو كأنّها مُصوّرة حديثاً، وكأنّها قادرة على التعبير عن أشدّ الأفكار قتامة، وأكثر دواخل البشر سوداوية. تعبّر عن انفعالات الناس في اللحظات العصيبة بأسلوب ليس بالضرورة تقليداً.
هذا ما يحاول "قصص من غابة الكستناء" تحقيقه، عبر اشتغال سينمائي "شبابي"، يؤشّر إلى بروز جيل سينمائي أوروبي يبحث عن أنساق سردية مختلفة، لا تتخلّى عن مفردات الصنعة السينمائية التقليدية.