"قديماً كركوان": مدنٌ بديلة

07 مايو 2016
(مشهد من الفيلم)
+ الخط -

في فيلمه الوثائقي الطويل "قديماً كركوان" (2016)، يعود المخرج التونسي عبد الحميد بوشناق بقرابة ألفي سنتي إلى الوراء، ليقدّم حكايةً عن مدينة "كركوان" التاريخية، شمال شرق البلاد؛ مُضيئاً على خصائصها المعمارية والثقافية، ضمن أسلوب يجمع بين التوثيق والتخييل.

شُيّدت كركوان، (التسمية تعني الغرس) في القرن السادس قبل الميلاد كمدينة تابعة لقرطاج البونية، وتُؤكّد حفرياتها أنها كانت مركزاً للصيّادين والتجّار والحرفيين، كما يؤكّد مرفأها أنها كانت تعتمد، إلى جانب الزراعة، على البحر؛ حيث شكّلت نقطة تبادل تجاري مع موانئ متوسّطية أخرى.

ينطلق الشريط، الذي عُرض في مدينة أريانة التونسية مؤخّراً، من الخلفيات التاريخية لتأسيس كركوان؛ متمثّلةً في قصّة "أميرة أغواها شاطئٌ، فقالت لتكُن عليه مدينة"، في إشارة إلى تأسيس الأميرة علّيسة (ابنة ملك صور) مدينة قرطاج في نهاية القرن التاسع قبل الميلاد، والتي تحوّلت إلى إمبراطورية؛ حيث ستُؤدّي مصاهرتها لسكّان شمال أفريقيا إلى إيجاد الشعب البونيقي.

هنا، ينتقل العمل إلى الحديث عن محاولات الباحثين وعلماء الآثار دراسةَ الحضارة القرطاجية والكشف عن أسرارها في كثير من المواقع المتوسّطية، حتّى ابتسم لهم الحظ، عن طريق الصدفة، كاشفاً عن مدينة بونية ظلّت كما هي على مدى 2300 سنة.

يتناول الفيلم، في ستّين دقيقةً، تاريخ الموقع الأثري الذي اكتُشف في الخمسينيات وصنّفته "اليونسكو" ضمن التراث العالمي عام 1985، منطلقاً من بؤرة مركزية فيها؛ تتمثّل في تعرّض المدينة إلى الهدم عام 256 قبل الميلاد، على يد القنصل الروماني أتيلوس ريغولوس، ما دفع بسكّانها إلى الهجرة منها نحو الغرب، للاحتماء بالهضاب، في محاولة لتأسيس مدينة بديلة.

أتاح هذا الجانب التاريخي، إضفاء رؤية تخييلية على الفيلم؛ من خلال إعادة تجسيد اقتحام المدينة وهدمها، وهجرة سكّانها إلى مكان آخر أطلقوا عليه تسمية "تامزراط"؛ حيثُ استعان المخرج بديكورات ضخمة وعدد كبير من الممثّلين لإعادة نسج تلك المشاهد المتخيَّلة.

إلى جانب تأثيثه بمشاهد تمثيلية وصوراً التُقطت من زوايا مختلفة للمدينة، يستعين العمل بشهادات عدد من المؤرّخين والباحثين وعلماء الآثار، ليُقدّم صورة شاملةً عن كركوان، لا تقف عند أطلالها، بل تتجاوزها لتضيء على الحياة اليومية لسكّانها، وحضور الجانب الروحي فيها.

لعلّ القيمة التوثيقية في العمل، الذي استند إلى نصّ كتبه خالد الشاوش، تكمن في تناوله مدينةً أثرية تونسية هي الوحيدة المتبقّية من المدن التي تعود إلى العهد البونيقي، قدّمت نموذجاً ملفتاً للتحضّر، ويقيت شاهداً على ذلك العهد الذي جاء الاحتلال الروماني في القرن الثالث قبل الميلاد، ليحاول محوه من الوجود.

يبدو الإسقاط السياسي على الواقع الحالي واضحاً في العمل، في زمن تفجّرت فيه الحروب والصراعات وهُدّمت مدن بأكملها، وامتلأ العالم بملايين النازحين بحثاً عن "مدن بديلة" و"أوطان بديلة". يتّضح ذلك أكثر في تعليق المخرج في آخر الفيلم، والذي جاء في شكل سؤال: "هل ستعرف تونس نفس مصير كركوان؟".

المساهمون