كنت أجلس عند الطبيب المعالج لابني، وهو صديق والدي رحمه الله، ولم يرني منذ كان عمري 6 سنوات تقريباً، فوجدته يقول لي: "كم تشبهين والدك في الشكل وطريقة الكلام!"
فغمرتني سعادة وملأني شعور بالحنين عميق جدا.
وكانت أول مرة أسمع فيها مثل هذا الكلام من شخص عرف أبي، عدت إلى البيت وساقني القدر، وكأنما على ميعاد، لأشاهد فيلما يحكي عن علاقة أب أرمل بابنته الوحيدة وحبه الشديد لها وغيرته عليها من كل إنسان، وهنا شعرت وكأن شاشات فتحت في ذهني أشبه بالـ screen shots وكأنها تنتظر مني أن ألمسها لتفتح، فأستعيد معها ذكرياتي مع والدي رحمه الله.
وجدت أمامي مشهده، وقد تقدم أحمد رحمه الله لخطبتي، وأنا بعد مراهقة، وكيف نظر إلي أبي نظرة لا أزال أفكر في تفاصيلها، ومعانيها المتشابكة، ولعلها خليط من السعادة والفخر، والدهشة الممتزجة بالشجن لقرب فراق الابنة الصغرى، آخر العنقود كما نقول في مصر، ورنت في داخلي كلمته التي حفرت في أعماقي غير قابلة للنسيان: "عايزة تتجوزي وتسيبيني يا بنت الكلب؟!" وكان مزاحه هذا مما يؤكد لدي دوما معاني القرب بيننا، وكان يعبر به عما يجيش في صدره من حب تجاهي، ورغبة في تدليلي، وقد رزق بي بعد عشرة أعوام من آخر ولد له، أذكر شعوري ساعتها بفيضان عاطفته، وابتسامتي بحياء الأنثى، وأنا أرد عليه بكل ثقة: لا تقلق فلن أتزوج أحدا لا توافق أنت عليه مليون بالمائة!
ولست أنسى مناقشاته في تفاصيل الزواج وهو يضعني موضع الأميرة التي لا تتساوي أبدا بأثاث أو صيني أو أدوات مطبخ وإنما كان يتعامل بشكل راق مع زوجي ويطبق حرفيا مبدأ من يشتري رجلا يحافظ على ابنته لأنه رجلها وهي امرأته، لا لثمن دفعه فيها، ولا لخشب أو زجاج!
وفي يوم زفافي، رأيت دموع أبي للمرة الأولى!
رأيته يبكي برقة، وهو اللواء أركان حرب المعروف بقوته وشدته.
كان مقبلا على ليلته الأولى دون وجودي في البيت، وتذكرت أنني استيقظت صبيحتها مبكرا في الثامنة، واتصلت به تليفونيا لنحكي سويا عن الفرح ونضحك قليلا وزوجي نائم!
وفي زياراتي الأسبوعية لبيت أبي، كان يأخذني لنخرج معا لنجول في وسط البلد، نتسوق ونأكل "آيس كريم" في الأميريكان أشهر محلات المنطقة، أو نذهب للنادي معا وأشبك يدي في يده وكأننا حبيبان يستأنس كل منا بالآخر!
تذكرت كيف كنت أوصد باب بيته بالمفتاح في زيارتي تلك الأسبوعية، كي أمنعه من الخروج، حتى أستمتع بوجوده أطول فترة ممكنة.
ثم تذكرت يوم رزقت بابنتي الكبرى ريم، وكيف ظل يتطلع إليها، ولا يرفع من عليها عينيه، وفي وجهه يستقر الرضا، تقرأ في صفحته: ابنتي اللعبة صار لديها لعبتها الصغيرة، وصار لدي لعبتان!
وإذا بشاشة أخرى تنفتح أمامي، لمرحلة أبكر حيث طفولتي ومراهقتي، حين كنت أفتخر بالتنزه مع أبي، وهو يراعي أعلى درجات الأناقة وأجمل الأذواق، وأرى في ذلك رغبة صادقة منه في ظهورنا جميعا في أبهى صورة، ولا أنسى خروجنا معا، ورحلاتنا معه، حين كان يملأ البيت طربا بأغاني معشوقه محمد فوزي، المبهجة، وكنا نغني ونفرح ونرقص معه أنا وأبناء إخوتي، وأتذكر كيف كان البيت ممتلئا بهجة وسعادة في حضوره الجميل.
وكانت لنا ساعة مقدسة وهي بين العصر والمغرب، نجلس في شرفة المنزل نحتسي الشاي، ونتناقش في كل الأمور عن أحلامنا وآمالنا وحكاياته وذكرياته التي لم أكن أملّها أبدا.
وتعود بي شاشة أخرى إلى الطفولة المبكرة، فأتذكر كيف كنت يوميا أضبط نفسي على موعد عودته من عمله في الجيش، مترقبة ظهوره من شرفة منزلنا، حتى إذا ظهر نزلت من الدور الرابع لأكون أول من يستقبله، وكيف كنت أشعر حينها بالبهجة والأمان، والنفس قد عادوا جميعا إلى البيت.
كان يحبني ويدللني، ولم يكن يناديني إلا "بالجمال الأسمر"، أو "ياسمينتي"، فكنت أرى في عينيه أنني أميرته بشكل حقيقي، وعرفت مؤخرا ومصادفة أن زملاءه كانوا إذا رفض لهم طلبا، أو تأخر في عمل شيء حلفوه بحياة ياسمين، فيرضخ لهم حبا وكرامة لي!
وعلى الرغم من أن الفارق في السن بيني وبينه كان 45 عاما، إلا أني لم أستشعر يوما هذا الفارق، صحيح أنني أحيانا كنت أشعر بالفجوة الزمنية بيننا، ولكنه سعى بكل جهده أن يسد هذه الفجوة.
حقا كان أبي مصدر الأمان والبهجة الحقيقية لي، والنموذج الحي الذي يعامل بناته على أنهن أميراته المتلألئات في حياته، وأدركت متأخرا أثر ذلك كله على نضجي العاطفي، وتوازني النفسي، وقدرتي على استيعاب الآخرين، أدركت كم أن وجود الأب حيوي وهام في تكوين شخصية الأبناء، وكم أن هذا الوجود لا يكفي فيه "مجرد الحضور" كعائل للأسرة ومنفق على البيت، أو قوّام على الزوجة والأولاد بشكل صوري لا يحقق معاني "الأبوة" الحقيقية، فقد جعل الله للأبناء حقوقا على والديهم كما للوالدين حقوق.
أيها الآباء لا تنسوا أن أبناءكم يحبونكم كما لا يحبون أحدا، فأحبوهم كما يرجون منكم أن تفعلوا، ودعوهم يعيشون كما يريدون، واثقين من حبكم لهم بشكل غير مشروط، فإن ما سيصل إليهم عن طريق حبكم هو أضعاف ما تحاولون توصيله عن طريق التربية والتقويم، ولا تنسوا أنكم لن تبقوا لهم في الدنيا، وأن الحبيب مفارق لحبيبه سواء أكان أبا أو أما أو زوجا، فلتدعوا ذكراكم الطيبة نبراسا لأولادكم بعد الرحيل، فإن الرحيل أجل محتوم.
في ذكراك أدعو الله أن يرحمك يا والدي الحبيب، وأن يجعل قبرك روضة من رياض الجنة، وأن يرضيك كما اجتهدت أن ترضينا، وترضيه فينا.
(مصر)