"فيلم أميركي طويل".. الدهشة بجرعات كبيرة

14 نوفمبر 2016
(مشهد من المسرحية)
+ الخط -

أن تشاهد فيلمًا شاهدته في السَّابق مرارًا وتكرارًا حتى حفظته تمامًا، هذا يعني أنَّ سبب المشاهدة مجدّدًا ليس لطلب الدّهشة؛ فلديك في ذاكرتك كل الأحداث بتسلسلها وكلماتها وعباراتها وأغانيها وحزنها وضحكها.

إلا أن هذا لا يحدث تمامًا عند مشاهدة فيلم مسرحية "فيلم أميركي طويل" لمخرجها وكاتبها الفنان زياد الرحباني (1956) بعد سماعها عشرات المرّات سابقًا من خلال سمَّاعات الـ Walkman أو إذاعة صوت الشعب اللبنانية. لأن الدّهشة ستكون حاضرة، وستستحضر مع المشاهدة دهشات قديمة متراكمة وأخرى جديدة لم تكن على البال.

فالمسرحية التي تتحدث مرضى نفسيين في مستشفى للأمراض العقلية؛ دخلوه، أو أُدخلوا إليه، ليتعالجوا من الأزمات والاضطرابات التي يعيشونها بسبب ظروف الحرب الأهلية، عُرضت في عام 1980 لمدّة ثمانية أشهر فقط على مسرح "البيكاديللي" في منطقة الحمرا، وشاهدها جيل الحرب الذي كان بإمكانه الوصول إلى القسم الغربي من بيروت.

لاحقًا، سمعتها أجيال من دون أن تتمكَّن من مشاهدتها لعدم توفُّرها مصوَّرة. انتقلت المسرحية إلى شاشة السنيما بعد تجميع مشاهدها المصوّرة من أكثر من عرض وبروفة بهدف تحسين ومتابعة الأداء حينها، وبعد العمل على تحسين وتنظيف صورتها وصوتها. هنا، وأثناء المشاهدة، ستكمن الدّهشة للجميع: لمن شاهدها مباشرة حين عرضت، لمن سمعها من دون أن يتسنَّى له أن يشاهدها سابقًا، ولمن سمع عنها من دون أن يسمعها أصلًا، أو لمن أحب زياد سابقًا وتحوَّلت مشاعره اتجاهه منذ سنوات.

فبصرف النَّظر عن إذا كان هذا الأمر في حساب القيِّمين على إعادة عرض هذا العمل، إلا أن هذا الفيلم المُجمّعة مشاهده؛ يظهر رشيد (زياد الرحباني) في إحدى لقطاته حليق الذّقن وأخرى ملتحيًا، ثمَّ يختفي الصوت في منتصف أحد مشاهده وتضعف جودته في مشاهد أخرى. يُشبه هذا كثيرًا الجو المرافق للمسرحيِّة التي عرضت أثناء الحرب لتصف واقع الحرب: رداءة الصوت والصورة (التي لم تنجح عملية تنظيفهما بشكل كامل) تأتي هنا كعنصر متمِّم ولتخدم جنون الظَّرف الذي تمَّ عرض المسرحيَّة خلاله، فتضفي على المُشاهدة بُعدًا جديدًا يضع من لم يشهد الحرب أمام التَّنازلات التي فرضتها الحرب على جودة تقنيّات الأعمال التي أُنتجت خلالها.

فانقطاع الكهرباء أثناء مشاهدة التلفزيون، وتعديل الصُّورة من خلال الرَّادار أو وسائل بدائيِّة أكثر (كوضع شوكة لتلقي الإرسال)، من دون التَّمكُّن من الحصول على صوت وصورة بالوضوح المُتمنَّى؛ كانت هي الظُّروف الطَّبيعية خلال الحرب وأثناء عرض المسرحية. كأنَّه لو تمَّ إنتاج هذا الفيلم هذا العام عن تلك الفترة دون الاعتماد على المسرحية، لكانت هذه الرَّداءة في الصوت والصورة خيارًا فنيًا قد يستخدم عمدًا كلغة أساسيَّة لإضفاء جو ومزاج الحرب والعمل بظلِّ التِّقنيات المتاحة أثناءها.

أمّا الذين سمعوا المسرحية سابقًا، وشاهدوها الآن؛ فالأرجح أنَّ همّهم يتعدّى الاهتمام بـ "المشاكل" التِّقنية، فهذه المرَّة يردِّدون الحوار مع الممثلين بصوت خافت كأنهم يلقِّنونهم إياه، ويطابقون أثناء المُشاهدة بين موقِع الأسِرَّة التي تخيَّلوها وموقعها أمامهم، بين انحناء رأس هاني المتأزِّم من الحواجز العسكريَّة ونظرته وهو يبرز الهوية أمام الحاجز الوهمي، وبين النَّظرة التي أمامهم الآن، وبين لغة جسد إدوار وهو يصف خوفه من "المحمودات".

أمّا الذين سمعوا عنها وسمعوها لأول مرَّة عندما شاهدوها، وهم على الأرجح من مواليد أواخر التِّسعينيات، فلا بدَّ أن دهشتهم الأكبر كانت كل تلك المصطلحات التي يستخدمونها أو ربما يسمعونها من دون أن تكون بالضَّرورة جزءًا من مفرداتهم، ولا يعرفون مصدرها أو سياق الأحداث التي أنتجتها.

مصطلحات ومفردات ارتبطت بالحرب: "لبنان طلع لحمة بعجين"، "الزعما عم يستغلُّوا الشَّعب والشَّعب معتَّر"، "كلكن محمودات"، "شو هيي المؤامرة تاك تاك تاك"، "ما في شي، ما في شي، عبوة"، "وقفت هيك.. ووقفت السِّير"، "أحداث حوادث لبنانية"، إلى جانب تلك الأغاني التي يردِّدون بعضها ولا يعرفون أنَّها جزء من المسرحيَّة: "راجعة بإذن الله"، و"يا زمان الطائفية"، و"قوم فوت نام"، ومن الممكن أنهم لم يروا مسبقًا جوزيف صقر يغنيها.

بكل الأحوال، فإنَّ الدَّهشة بجوزيف صقر لا تقتصر على من لم يسمعه أو يراه يغني من قبل، بل في حضوره ودوره الكثيف والمقتصد ولا مبالاته إلّا بالحشيش المستبدل بعقاقير يشتكي من تناولها كونها تجعله يعي الوضع الذي يريد أن ينساه. في حضوره حكمة الذي يعرف كل شيء ولم يعد يأبه بشيء، وفي هدوئه رغبة الذين لا يريدون إلا الأشياء القليلة التي تسعدهم.

دهشة إضافيَّة، قد يكون شعر بها بعض من شاهد فيلم "الطيران فوق عُشّ الوقواق" من إخراج ميلوش فورمان وبطولة جاك نيكلسون. الفيلم الذي عُرض عام 1975 تدور أحداثه في مشفى للأمراض العقلية أيضًا. شخصيَّات أبطاله متنوِّعة الاضطرابات وإن اختلفت اضطراباتهم عن اضطرابات مستشفى "فيلم أميركي طويل"، إلا أن جوّ جلسات العلاج الجماعي في الفيلم  والمسرحية/الفيلم متشابهة من حيث نقمة المرضى ويأسهم وإحباطهم ومحاولة السيطرة على اضطراباتهم بالإدوية والجلسات الكهربائية، ومحاولات الاحتجاج وسخرية وتمرّد بعضهم من أنظمة المكان وانصياع الأضعف لها، ومن حيث الاستسلام والانكسارات وهاجس المغادرة والعلاقات التي تُنسج داخل المكان والمشاكسات بين المرضى، والعلاج الذي يخدِّر أي قدرة على الرّفض ويؤدِّي إلى إذعان الجميع لقوانين المؤسَّسة حتَّى الأكثر تمردًّا، ينجو منه تشيف  في الفيلم حين يهرب، ورشيد حين يصرخ.

صرخة "رشيد" الأخيرة. دهشة الدَّهشات. الصرخة التي تأتي بعد فقدان الأمل بعلاج الانفصامات والإدمان والخوف والعصبية الطائفية، على يد طاقم هو نفسه مصاب بأمراض مماثلة. صرخة جاءت بعد اعتماد الدواء بجرعات مضاعفة وغسل دماغ وجلسات كهربائية توهم الجميع بوهم أن "كل اللبنانية إخوة". صرخة رشيد التي سُمعت في كثيرٍ من المرات على الإذاعات والكاسيتات، ولكنها صرخة بالصوت والصورة والألم وملابس الاستعداد للخروج من المشفى هذه المرة.

المساهمون