يبدي المحامي الألماني من أصل مغربي سعيد بركان، استغرابه من قرار المحكمة الدستورية الاتحادية في مدينة كارلسروه جنوبي ألمانيا تأييد قرار المحكمة الإدارية في مدينة كاسل التابعة لولاية هيسن بمنع محامية محجبة في مرحلة التدريب، من المشاركة في الجلسات أو تمثيل الادعاء العام على قوس محكمة فرانكفورت-أَمْ-ماين، بعد شكوى تقدمت بها إيفا كونه هيرمان وزيرة العدل في هيسن والتي تخضع فرانكفورت لسلطتها، تطالبها بتطبيق المادة 45 من قانون الموظفين المدنيين الصادر في 28 يونيو/حزيران 2007 الذي يمنع بموجبه الموظفات من ارتداء الحجاب خلال التدريب.
ويتابع القانوني بركان ملف المتدربة ذات الأصول المغربية عن كثب، إذ إنه يترأس المجلس الأعلى للمسلمين في ولاية هيسن، حسبما يقول لـ"العربي الجديد" مشيرا إلى أن هذا القرار يعد انتهاكا للحرية الشخصية والدينية والتعليمية للمحجبات في ألمانيا، ومخالفا للدستور الألماني الذي ينص في مادته الرابعة على عدم انتهاك حرية المعتقد، وحرية الضمير، وكفل الممارسة الآمنة للشعائر الدينية.
"التمييز باسم الحياد"
في فبراير/شباط من عام 2009 قالت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقرير بعنوان "التمييز باسم الحياد: الحظر على حجاب المعلمات والموظفات العموميات في ألمانيا" إن الحكومة الألمانية تحظر الرموز الدينية والزي الديني للمعلمات ولغيرهن من العاملات في الوظائف العامة، مما ينطوي على التمييز ضد النساء المسلمات اللاتي يرتدين الحجاب.
ويستند التقرير الذي جاء في 67 صفحة والمنشور على موقع المنظمة، إلى أبحاث موسعة استغرقت 8 أشهر، لتحليل الآثار الحقوقية الناجمة عن الحظر وأثره على حياة المعلمات المسلمات، ومنهن من يشتغلن بالتعليم منذ سنوات، وانتهى إلى أن الحظر تسبب في تخلي بعض النساء عن عملهن أو هجر ألمانيا، حيث عشن طيلة حياتهن.
ولدى صدور التقرير برر المسؤولون الألمان، الحظر على أساس أن المعلمات عليهن واجب ضمان بقاء المدارس مُحايدة في ما يخص الدين والهوية. لكن بحسب التقرير فإنه لا يوجد دليل على أن سلوك المعلمات ينتهك هذا الواجب. لكن الحظر يستند إلى فكرة أن مجرد ارتداء الحجاب يخلّ بالحياد، وهي الحجة ذاتها التي استندت إليها المحكمة الدستورية الاتحادية في مدينة كارلسروه بعد 7 سنوات من صدور التقرير السابق، إذ أكدت في نهاية يونيو/حزيران الماضي، أن قرار منع الطالبة المحجبة جاء على أساس حياد الدولة في إجراءات المحاكم، وهو ما يفوق الحرية الدينية والحقوق الأساسية والمهنية للطالبة، ولفت إلى أن مصالح ولاية هيسن تسود انطلاقا من تعزيز فكرة الحياد الفكري والديني للدولة.
واعتبرت حيثيات الحكم التي اطلع عليها معد التحقيق أن عدم مشاركة الطالبة في التدريب المذكور لن يكون له تأثير إضافي على تحصيلها العلمي، وأن المتدرب القانوني يعمل كممثل لسلطة الدولة، ومبدأ الحياد يجب أن يحترم، والملابس بنظر المحكمة لها دلالة دينية تنتهك مبدأ الحياد في القضاء، ولذلك فإن المتدربات من المحجبات يثرن الشكوك بحيادهن، وهو ما يعتبره المحامي بركان، ذريعة، لأن الإنسان خاضع في الأساس لحرية الضمير، وللفرد الحق في أن يمتلك ذهنه كما جسده، وحرية تفكيره ملكه ويعتمد في أحكامه واختياراته على قناعته الوجدانية أيضا، ولا يمكن أن يتأثر بأي دين من الأديان، من دون أن ينتقص ذلك من وطنيته، لافتا إلى أن عدم التسامح العقائدي الذي يعتري السلطة القضائية وخوفها من أن تعمل المحاكمات لخدمة عقيدة، أو إيديولوجية معينة دفعها إلى اتخاذ قرار مجحف بحق المتدربة.
لكن الباحث في مبادرة النخبة الممتازة لدراسات الدين والسياسة بجامعة مونستر في ألمانيا السيد الرحماني يرى ضرورة وضع هذا الحكم ضمن سياق صدوره، إذ عقب صدور الحكم الأولى رفعت المتدربة دعوى مستعجلة للتظلم من هذا القرار أمام المحكمة الإدارية بمدينة فرانكفورت-أَمْ-ماين استنادا إلى كونه قرارا مجحفا فيه تمييز عنصري ضدها كمسلمة يأمرها دينها بالتزام لباس معين، فقبلت محكمة فرانكفورت الدعوى المستعجلة، وكان رد الفعل من جانب وزارة العدل هو التقدم إلى المحكمة الإدارية بمدينة كاسل بشكوى تعترض فيها على قبول الدعوى المستعجلة، فجاء حكم المحكمة الأخيرة في مدينة كاسل لصالح وزارة العدل على أساس وجود مستند قانوني يجعل قرار الوزارة مقبولا. فالأمر إذن متعلق باختلاف في تفسير القانون بين الهيئات القضائية في ألمانيا، فثمة جهة تقبل وجهة ترفض، ومسوغات الجهة الرافضة في القضية المذكورة لم تكن بسبب ديانة الشخص المتقدم إلى الوظيفة أو العمل، وإنما بسبب اعتبارات أخرى متعلقة بمتطلبات الوظيفة من وجهة نظر صاحب العمل، لذلك لا يمكن الحديث بالمطلق عن وجود تمييز عنصري في القانون الألماني بسبب الديانة، وهذا ليس نفيا بالطبع لوجود أشكال للتميز العنصري ضد المسلمات المحجبات، فالتمييز موجود بالفعل في حالات دون أخرى، وكل حالة تقدر بقدرها.
اقــرأ أيضاً
ولايات ينتشر فيها التمييز
تتزايد المضايقات للمحجبات في ولايتي شمال الراين وستفاليا وبادن فورتنمبرغ، إذ تتعرض 7 من كل 10 نساء للمضايقات بشكل شبه يومي للتمييز والمضايقات، ولا سيما المضايقات اللفظية، ناهيك عن الضغط المعنوي والنفسي في مجالات العمل وفق ما تؤكده عضو الحزب الاشتراكي الديمقراطي والناشطة في جمعية رحمة الإسلامية في ولاية هيسن، لبنى وارياش لـ"العربي الجديد"، مشيرة إلى أن الكثيرات من النساء اعتدن على هذا النوع من التعاطي السلبي، وتجاوزن الكثير من العوائق، التي زادت حدتها مع تصاعد أزمة اللاجئين والتحليلات المبنية على خلفيات عنصرية، مع وصول حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني الشعبوي إلى برلمانات الولايات والبوندستاغ (البرلمان الاتحادي) الذي حل فيه ثالثا في الانتخابات الأخيرة في سبتمبر/أيلول الماضي، وهو ما شكل انعطافة سلبية، وتسبب بنقمة متزايدة على اللاجئين والمسلمين بشكل عام، وعلى المرأة المحجبة بشكل خاص، وبات المسلمون البالغ عددهم 4.7 ملايين مسلم بحسب بيانات المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين يتعرضن لضغوط من قبيل دعاوى ضد الموظفات من المحجبات، وهو ما تؤكد عليه الناشطة في جمعية الدعوة الإسلامية ليلى إبراهيم، قائلة لـ"العربي الجديد": "الواقع الذي تعيشه الكثير من الألمانيات المحجبات ليس بعيدا عما حصل مع المتدربة في محكمة فرانكفورت، وهو ما يؤرق العائلات، والجمعيات العربية والإسلامية تحديدا لكون الغرب، ومنهم الألمان يرون في الحجاب رمزا دينيا يتناقض مع العلمانية، رغم الانفتاح الذي عرفت به ألمانيا، خاصة في الفترة الأخيرة واستقبالها مواطنين ولاجئين من مختلف الجنسيات "، لكن الإعلام اليميني عمل على تشويه صورة المرأة المحجبة، وساعده في ذلك موجات العنف والترهيب الإعلامي من الإسلاموفوبيا التي أدت إلى تزايد الريبة من المسلمين في ألمانيا بحسب ليلى إبراهيم، وزادت الريبة من المسلمين مع تمدد الفكر المتطرف في أوروبا بعد أن ضرب الإرهاب عددا من دولها خلال السنوات الأخيرة، وهو ما أثر سلبا على صورة المرأة المحجبة وجعلها محل شبهة، وكأنها أحد الداعمين للفكر التكفيري والجهادي ومصدر للإرهاب، وفق ما تقول لبنى وارياش.
"بالفعل هناك اختلاف بين الولايات الألمانية الشرقية والغربية من حيث الموقف من المسلمين عامة ومن مظهر حجاب المرأة المسلمة بصفة خاصة"، وفقا للتجربة الذاتية للباحث الرحماني، والذي لفت إلى أن ولايات غرب ألمانيا تتسم بقدر أكبر من التسامح والتعايش السلمي تجاه المحجبات، على العكس من الولايات الشرقية التي كانت تحت الحكم السوفيتي حتى حدوث الوحدة الألمانية في 3 أكتوبر/تشرين الأول من عام 1990، قائلا لـ"العربي الجديد":"في الولايات الشرقية معاداة واضحة للمسلمين والمسلمات، وهناك تنتشر حركات وتيارات اليمين المتطرف التي تذكي نار العداوة والكراهية ويرتكب بعض أتباعها اعتداءات وجرائم تصل إلى حد القتل أحيانا، كما شهدنا في واقعة مقتل السيدة مروة الشربيني في العام 2009 في ساحة إحدى المحاكم بمدينة دريسدن بشرق ألمانيا".
اقــرأ أيضاً
رحلة العناء تبدأ من المدرسة
"تبدأ مشكلة المحجبات في ألمانيا من المدارس وتنتهي عند تقدمهن بطلبات للحصول على فرصة للتدريب الإلزامي المطلوب خلال مرحلة الدراسة، أو على فرصة عمل في إحدى المؤسسات، أو الشركات الألمانية" بحسب ليلى إبراهيم التي استمعت لشكوى الكثير من النساء المحجبات اللائي خضعن لمقابلات التدريب التوظيف، ثم يأتي الرد للحالات التي تعاملت معها، بالرفض من دون توضيح الأسباب المباشرة لذلك، وبعد المراجعة يتبين لذوي المتقدمات أن سبب الرفض الرئيس هو ارتداء الحجاب، خاصة في البنوك وشركات التأمين والمحاسبة، وفي الإدارات العامة، فيما يبقى الوضع أفضل نسبيا في مجالات أخرى، كالتدريب في المستشفيات ودور الحضانة، وتتبوأ المرأة المحجبة المناصب في مجال الإدارة والمهن الحرة كالطب والهندسة وغيرها من المهن في ألمانيا وفقاً لما تقوله لبنى وارياش.
من المسؤول؟
كل الأطراف مسؤولة على قدم سواء؛ عن حالة "فوبيا الحجاب" كما يرى الباحث الرحماني، مفسرا حديثه بأن المسلمين مسؤولون عن دور بعضهم في تصدير صورة سلبية من خلال ممارسات خاطئة في الحياة اليومية وبسبب ارتكاب بعض الموتورين اعتداءات غادرة تهز الرأي العام في ألمانيا وفي العالم كله، كذلك هم مسؤولون عن تقصيرهم في فهم ماهية وطبيعة المجتمع الألماني وثقافته وعاداته وتقاليده، وعلى الجانب الآخر يتحمل الألمان جزءا كبيرا من المسؤولية أيضا لأنهم كذلك مقصرون في فعل ما يعين على فهم الآخر الوافد واحتوائه، لذلك من الطبيعي أن تتعمق حالة الفوبيا أو القلق المرضي من الوجود الإسلامي دون تمييز واع بين غالبية مسلمة معتدلة تعيش بالفعل أو تريد أن تعيش في سلام وتشارك بطاقاتها ومواهبها في بناء الدولة وإثراء المجتمع، يعني هذا في الأخير أن المسؤولية موزعة على الجميع، ومبادرات التفاهم والتقارب لا بد أن تأتي من كل الأطراف على حد سواء.
وبالرغم من تأكيد الدستور الألماني على حرية العقيدة، حرية الضمير، وحرية اعتناق أي دين، أو فلسفة، إلا أن القانون أعطى السلطة الإدارية سلطة استنسابية في إعطاء الحق بإبراز الرموز الدينية أو منعها وفق ما يقول أستاذ العلوم السياسية والاجتماعية في جامعة فرانكفورت الدكتور محمود الصباغ لـ"العربي الجديد"، مشيرا إلى أن حرية المعتقد كفلها الدستور الألماني مع اشتراط عدم تعارضها مع المبادئ العامة والقوانين السائدة، ومع علمانية ألمانيا إلا أن بعض المعايير والمفاهيم الدينية ما زالت تتحكم بالسياسات السائدة في المجتمع وإدارات الدولة كما يقول، ويتفق الباحث السيد الرحماني مع الرأي السابق قائلا "على سبيل المثال أصدرت المحكمة الدستورية الاتحادية في ألمانيا حكما في نوفمبر/تشرين الثاني العام الماضي يؤيد حق الكنيسة الكاثوليكية في إقالة طبيب مسيحي من العمل في أحد المستشفيات التابعة لها لأنه أقدم على الزواج مرة ثانية بعد طلاقه من زوجته الأولى، جاء هذا الحكم ليلغي حكما قضائيا سابقا صدر من محكمة العمل لمصلحة الطبيب المقال، وبررت المحكمة الدستورية حكمها اعتمادا على الوضعية الخاصة التي تتمتع بها الكنيسة في الدستور الألماني، وهي الوضعية التي تعطي الحق للكنيسة في الاحتفاظ بهويتها الخاصة التي ترتضيها لذاتها (Kirchliches Selbstverständnis).
ولمواجهة هذا الواقع ترى الناشطة في جمعية الدعوة الإسلامية ليلى إبراهيم ضرورة مواجهة الحملات ضد المحجبات بأخرى مضادة، ومساندة المحجبات في تطوير مهاراتهن الفردية والوظيفية وإثبات ذلك للمجتمع الذي تعيش فيه، للتأكيد على أن الإسلام ليس دين تخلف وتقوقع، وهو ما سيساهم بشكل كبير في تغيير النظرة عن المرأة المحجبة في المجتمعات الأوروبية حيث ينظر إلى الحجاب كعنصر اضطهاد للمرأة ومعاديا للانفتاح والحرية الشخصية والديمقراطية.
ويتابع القانوني بركان ملف المتدربة ذات الأصول المغربية عن كثب، إذ إنه يترأس المجلس الأعلى للمسلمين في ولاية هيسن، حسبما يقول لـ"العربي الجديد" مشيرا إلى أن هذا القرار يعد انتهاكا للحرية الشخصية والدينية والتعليمية للمحجبات في ألمانيا، ومخالفا للدستور الألماني الذي ينص في مادته الرابعة على عدم انتهاك حرية المعتقد، وحرية الضمير، وكفل الممارسة الآمنة للشعائر الدينية.
"التمييز باسم الحياد"
في فبراير/شباط من عام 2009 قالت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقرير بعنوان "التمييز باسم الحياد: الحظر على حجاب المعلمات والموظفات العموميات في ألمانيا" إن الحكومة الألمانية تحظر الرموز الدينية والزي الديني للمعلمات ولغيرهن من العاملات في الوظائف العامة، مما ينطوي على التمييز ضد النساء المسلمات اللاتي يرتدين الحجاب.
ويستند التقرير الذي جاء في 67 صفحة والمنشور على موقع المنظمة، إلى أبحاث موسعة استغرقت 8 أشهر، لتحليل الآثار الحقوقية الناجمة عن الحظر وأثره على حياة المعلمات المسلمات، ومنهن من يشتغلن بالتعليم منذ سنوات، وانتهى إلى أن الحظر تسبب في تخلي بعض النساء عن عملهن أو هجر ألمانيا، حيث عشن طيلة حياتهن.
ولدى صدور التقرير برر المسؤولون الألمان، الحظر على أساس أن المعلمات عليهن واجب ضمان بقاء المدارس مُحايدة في ما يخص الدين والهوية. لكن بحسب التقرير فإنه لا يوجد دليل على أن سلوك المعلمات ينتهك هذا الواجب. لكن الحظر يستند إلى فكرة أن مجرد ارتداء الحجاب يخلّ بالحياد، وهي الحجة ذاتها التي استندت إليها المحكمة الدستورية الاتحادية في مدينة كارلسروه بعد 7 سنوات من صدور التقرير السابق، إذ أكدت في نهاية يونيو/حزيران الماضي، أن قرار منع الطالبة المحجبة جاء على أساس حياد الدولة في إجراءات المحاكم، وهو ما يفوق الحرية الدينية والحقوق الأساسية والمهنية للطالبة، ولفت إلى أن مصالح ولاية هيسن تسود انطلاقا من تعزيز فكرة الحياد الفكري والديني للدولة.
واعتبرت حيثيات الحكم التي اطلع عليها معد التحقيق أن عدم مشاركة الطالبة في التدريب المذكور لن يكون له تأثير إضافي على تحصيلها العلمي، وأن المتدرب القانوني يعمل كممثل لسلطة الدولة، ومبدأ الحياد يجب أن يحترم، والملابس بنظر المحكمة لها دلالة دينية تنتهك مبدأ الحياد في القضاء، ولذلك فإن المتدربات من المحجبات يثرن الشكوك بحيادهن، وهو ما يعتبره المحامي بركان، ذريعة، لأن الإنسان خاضع في الأساس لحرية الضمير، وللفرد الحق في أن يمتلك ذهنه كما جسده، وحرية تفكيره ملكه ويعتمد في أحكامه واختياراته على قناعته الوجدانية أيضا، ولا يمكن أن يتأثر بأي دين من الأديان، من دون أن ينتقص ذلك من وطنيته، لافتا إلى أن عدم التسامح العقائدي الذي يعتري السلطة القضائية وخوفها من أن تعمل المحاكمات لخدمة عقيدة، أو إيديولوجية معينة دفعها إلى اتخاذ قرار مجحف بحق المتدربة.
لكن الباحث في مبادرة النخبة الممتازة لدراسات الدين والسياسة بجامعة مونستر في ألمانيا السيد الرحماني يرى ضرورة وضع هذا الحكم ضمن سياق صدوره، إذ عقب صدور الحكم الأولى رفعت المتدربة دعوى مستعجلة للتظلم من هذا القرار أمام المحكمة الإدارية بمدينة فرانكفورت-أَمْ-ماين استنادا إلى كونه قرارا مجحفا فيه تمييز عنصري ضدها كمسلمة يأمرها دينها بالتزام لباس معين، فقبلت محكمة فرانكفورت الدعوى المستعجلة، وكان رد الفعل من جانب وزارة العدل هو التقدم إلى المحكمة الإدارية بمدينة كاسل بشكوى تعترض فيها على قبول الدعوى المستعجلة، فجاء حكم المحكمة الأخيرة في مدينة كاسل لصالح وزارة العدل على أساس وجود مستند قانوني يجعل قرار الوزارة مقبولا. فالأمر إذن متعلق باختلاف في تفسير القانون بين الهيئات القضائية في ألمانيا، فثمة جهة تقبل وجهة ترفض، ومسوغات الجهة الرافضة في القضية المذكورة لم تكن بسبب ديانة الشخص المتقدم إلى الوظيفة أو العمل، وإنما بسبب اعتبارات أخرى متعلقة بمتطلبات الوظيفة من وجهة نظر صاحب العمل، لذلك لا يمكن الحديث بالمطلق عن وجود تمييز عنصري في القانون الألماني بسبب الديانة، وهذا ليس نفيا بالطبع لوجود أشكال للتميز العنصري ضد المسلمات المحجبات، فالتمييز موجود بالفعل في حالات دون أخرى، وكل حالة تقدر بقدرها.
ولايات ينتشر فيها التمييز
تتزايد المضايقات للمحجبات في ولايتي شمال الراين وستفاليا وبادن فورتنمبرغ، إذ تتعرض 7 من كل 10 نساء للمضايقات بشكل شبه يومي للتمييز والمضايقات، ولا سيما المضايقات اللفظية، ناهيك عن الضغط المعنوي والنفسي في مجالات العمل وفق ما تؤكده عضو الحزب الاشتراكي الديمقراطي والناشطة في جمعية رحمة الإسلامية في ولاية هيسن، لبنى وارياش لـ"العربي الجديد"، مشيرة إلى أن الكثيرات من النساء اعتدن على هذا النوع من التعاطي السلبي، وتجاوزن الكثير من العوائق، التي زادت حدتها مع تصاعد أزمة اللاجئين والتحليلات المبنية على خلفيات عنصرية، مع وصول حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني الشعبوي إلى برلمانات الولايات والبوندستاغ (البرلمان الاتحادي) الذي حل فيه ثالثا في الانتخابات الأخيرة في سبتمبر/أيلول الماضي، وهو ما شكل انعطافة سلبية، وتسبب بنقمة متزايدة على اللاجئين والمسلمين بشكل عام، وعلى المرأة المحجبة بشكل خاص، وبات المسلمون البالغ عددهم 4.7 ملايين مسلم بحسب بيانات المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين يتعرضن لضغوط من قبيل دعاوى ضد الموظفات من المحجبات، وهو ما تؤكد عليه الناشطة في جمعية الدعوة الإسلامية ليلى إبراهيم، قائلة لـ"العربي الجديد": "الواقع الذي تعيشه الكثير من الألمانيات المحجبات ليس بعيدا عما حصل مع المتدربة في محكمة فرانكفورت، وهو ما يؤرق العائلات، والجمعيات العربية والإسلامية تحديدا لكون الغرب، ومنهم الألمان يرون في الحجاب رمزا دينيا يتناقض مع العلمانية، رغم الانفتاح الذي عرفت به ألمانيا، خاصة في الفترة الأخيرة واستقبالها مواطنين ولاجئين من مختلف الجنسيات "، لكن الإعلام اليميني عمل على تشويه صورة المرأة المحجبة، وساعده في ذلك موجات العنف والترهيب الإعلامي من الإسلاموفوبيا التي أدت إلى تزايد الريبة من المسلمين في ألمانيا بحسب ليلى إبراهيم، وزادت الريبة من المسلمين مع تمدد الفكر المتطرف في أوروبا بعد أن ضرب الإرهاب عددا من دولها خلال السنوات الأخيرة، وهو ما أثر سلبا على صورة المرأة المحجبة وجعلها محل شبهة، وكأنها أحد الداعمين للفكر التكفيري والجهادي ومصدر للإرهاب، وفق ما تقول لبنى وارياش.
"بالفعل هناك اختلاف بين الولايات الألمانية الشرقية والغربية من حيث الموقف من المسلمين عامة ومن مظهر حجاب المرأة المسلمة بصفة خاصة"، وفقا للتجربة الذاتية للباحث الرحماني، والذي لفت إلى أن ولايات غرب ألمانيا تتسم بقدر أكبر من التسامح والتعايش السلمي تجاه المحجبات، على العكس من الولايات الشرقية التي كانت تحت الحكم السوفيتي حتى حدوث الوحدة الألمانية في 3 أكتوبر/تشرين الأول من عام 1990، قائلا لـ"العربي الجديد":"في الولايات الشرقية معاداة واضحة للمسلمين والمسلمات، وهناك تنتشر حركات وتيارات اليمين المتطرف التي تذكي نار العداوة والكراهية ويرتكب بعض أتباعها اعتداءات وجرائم تصل إلى حد القتل أحيانا، كما شهدنا في واقعة مقتل السيدة مروة الشربيني في العام 2009 في ساحة إحدى المحاكم بمدينة دريسدن بشرق ألمانيا".
رحلة العناء تبدأ من المدرسة
"تبدأ مشكلة المحجبات في ألمانيا من المدارس وتنتهي عند تقدمهن بطلبات للحصول على فرصة للتدريب الإلزامي المطلوب خلال مرحلة الدراسة، أو على فرصة عمل في إحدى المؤسسات، أو الشركات الألمانية" بحسب ليلى إبراهيم التي استمعت لشكوى الكثير من النساء المحجبات اللائي خضعن لمقابلات التدريب التوظيف، ثم يأتي الرد للحالات التي تعاملت معها، بالرفض من دون توضيح الأسباب المباشرة لذلك، وبعد المراجعة يتبين لذوي المتقدمات أن سبب الرفض الرئيس هو ارتداء الحجاب، خاصة في البنوك وشركات التأمين والمحاسبة، وفي الإدارات العامة، فيما يبقى الوضع أفضل نسبيا في مجالات أخرى، كالتدريب في المستشفيات ودور الحضانة، وتتبوأ المرأة المحجبة المناصب في مجال الإدارة والمهن الحرة كالطب والهندسة وغيرها من المهن في ألمانيا وفقاً لما تقوله لبنى وارياش.
من المسؤول؟
كل الأطراف مسؤولة على قدم سواء؛ عن حالة "فوبيا الحجاب" كما يرى الباحث الرحماني، مفسرا حديثه بأن المسلمين مسؤولون عن دور بعضهم في تصدير صورة سلبية من خلال ممارسات خاطئة في الحياة اليومية وبسبب ارتكاب بعض الموتورين اعتداءات غادرة تهز الرأي العام في ألمانيا وفي العالم كله، كذلك هم مسؤولون عن تقصيرهم في فهم ماهية وطبيعة المجتمع الألماني وثقافته وعاداته وتقاليده، وعلى الجانب الآخر يتحمل الألمان جزءا كبيرا من المسؤولية أيضا لأنهم كذلك مقصرون في فعل ما يعين على فهم الآخر الوافد واحتوائه، لذلك من الطبيعي أن تتعمق حالة الفوبيا أو القلق المرضي من الوجود الإسلامي دون تمييز واع بين غالبية مسلمة معتدلة تعيش بالفعل أو تريد أن تعيش في سلام وتشارك بطاقاتها ومواهبها في بناء الدولة وإثراء المجتمع، يعني هذا في الأخير أن المسؤولية موزعة على الجميع، ومبادرات التفاهم والتقارب لا بد أن تأتي من كل الأطراف على حد سواء.
وبالرغم من تأكيد الدستور الألماني على حرية العقيدة، حرية الضمير، وحرية اعتناق أي دين، أو فلسفة، إلا أن القانون أعطى السلطة الإدارية سلطة استنسابية في إعطاء الحق بإبراز الرموز الدينية أو منعها وفق ما يقول أستاذ العلوم السياسية والاجتماعية في جامعة فرانكفورت الدكتور محمود الصباغ لـ"العربي الجديد"، مشيرا إلى أن حرية المعتقد كفلها الدستور الألماني مع اشتراط عدم تعارضها مع المبادئ العامة والقوانين السائدة، ومع علمانية ألمانيا إلا أن بعض المعايير والمفاهيم الدينية ما زالت تتحكم بالسياسات السائدة في المجتمع وإدارات الدولة كما يقول، ويتفق الباحث السيد الرحماني مع الرأي السابق قائلا "على سبيل المثال أصدرت المحكمة الدستورية الاتحادية في ألمانيا حكما في نوفمبر/تشرين الثاني العام الماضي يؤيد حق الكنيسة الكاثوليكية في إقالة طبيب مسيحي من العمل في أحد المستشفيات التابعة لها لأنه أقدم على الزواج مرة ثانية بعد طلاقه من زوجته الأولى، جاء هذا الحكم ليلغي حكما قضائيا سابقا صدر من محكمة العمل لمصلحة الطبيب المقال، وبررت المحكمة الدستورية حكمها اعتمادا على الوضعية الخاصة التي تتمتع بها الكنيسة في الدستور الألماني، وهي الوضعية التي تعطي الحق للكنيسة في الاحتفاظ بهويتها الخاصة التي ترتضيها لذاتها (Kirchliches Selbstverständnis).
ولمواجهة هذا الواقع ترى الناشطة في جمعية الدعوة الإسلامية ليلى إبراهيم ضرورة مواجهة الحملات ضد المحجبات بأخرى مضادة، ومساندة المحجبات في تطوير مهاراتهن الفردية والوظيفية وإثبات ذلك للمجتمع الذي تعيش فيه، للتأكيد على أن الإسلام ليس دين تخلف وتقوقع، وهو ما سيساهم بشكل كبير في تغيير النظرة عن المرأة المحجبة في المجتمعات الأوروبية حيث ينظر إلى الحجاب كعنصر اضطهاد للمرأة ومعاديا للانفتاح والحرية الشخصية والديمقراطية.