"فعل القتل": شبّيحة إندونيسيا يتحدثون

04 اغسطس 2014
لقطة من "فعل القتل"
+ الخط -

"عام 1965 أطاح الجيش بالحكومة الإندونيسية. واعتبرت الدكتاتورية العسكرية الجديدة أي معارض لها شيوعياً، وبالتالي يجب قتله. وخلال سنة، تمت تصفية وقتل ما يفوق المليون أندونيسي بتهمة الشيوعية. استعان الجيش حينها بالعديد من المجرمين كي يرتكبوا فعل القتل".

بهذه السطور يستهل المخرج الأميركي جوشا أوبنهايمر فيلمه الوثائقي "فعل القتل" (2012) الذي حصل مؤخراً على جائزة أفضل وثائقي من أكاديمية "بافتا" (BAFTA) البريطانية. توجّه أوبنهايمر إلى أندونيسيا بعد مضي أربعين عاماً على المجازر، وسجّل شهادات القتل، بما فيها شهادات القتلة، علماً أن قرار المخرج في البداية كان تصوير شهادات أهالي الضحايا. لكن الخوف المهيمن اليوم في أندونيسيا وتحكُّم قتلة الأمس بالبلد حالياً دفعه إلى عدم إهمالهم، تاركاً لهم حرية سرد شهاداتهم بالطريقة التي يريدونها.

لقب معظم القتلة آنذاك كان "زعران السينما"، وقد جنّدهم الجيش وأعضاء البرلمان ليشكّلوا مع عصابات أخرى فرق الموت (يقرّ واحدٌ منهم بقتله نحو ألف شخص). يركّز أوبنهايمر على شخصية أنور كونغو، العجوز الآن، وأحد "زعران السينما" سابقاً ممن أصبحوا زعماء ميليشيات. يرى أنور نفسه قاتلاً، وليس لديه ما يخفيه، فهو معتدّ بنفسه وبأفعال القتل التي ارتكبها، لكنه يروي أفعاله كما يحلو له.

ولأن أنور وأصدقاءَه مولعون بالسينما الأميركية العنيفة؛ يقرّرون تمثيل أفعال القتل التي ارتكبوها بطريقة سينمائية، علماً أن أنور يملك قصصاً تفوق أفلام العنف ساديةً ودمويةً؛ قصصاً حقيقية، غير نابعة من الخيال.

لجرائم القتل التي ارتُكبت عام 1965 في أندونيسيا صداها في أيامنا هذه مع انتشار ظواهر البلطجية والشبيحة والإرهابيين والفاشيين الجدد. ولكن المثير في فيلم أوبنهايمر هو حضور التاريخ كفعل (كما يوحي عنوان الفيلم) وليس كحقبة منجزة أو معلومة منقطعة عن الراهن. وفي هذا السياق نشير إلى أن هذا العمل لا يقدّم معلومات قيّمة عن السياق التاريخي والسياسي للمجازر باستثناء بضعة أسطُر في بدايته. إذ يرى أوبنهايمر أن التاريخ متمازج مع الآني رغم محاولات طمسه وإنكاره، ويعزز فيلمه من هذا التمازج عندما يقرر القتلة تمثيل ما ارتكبوه، نظراً إلى ما يحويه التمثيل من آنية.

يصرخ أحد القتلة في الكومبارس: "سعادة، سلام، ابتسامة"، ويبدأ الفيلم عندما يطلب القاتل من الكومبارس أن يكونوا أكثر سعادة وهم يؤدون مشهداً راقصاً، تماماً مثل القتلة الذين كانوا يتكلمون عن أغاني إلفيس بريسلي وغيره، ويردّدونها راقصين مباشرةً بعد عمليات القتل.

في تمثيلهم لمشاهد جرائمهم الرهيبة، يستخدم القتلة في البداية بعض الأدوات البسيطة. لكن بما أن طموحهم السينمائي كبير، يستحضرون الأزياء المناسبة والمكياج والكومبارس، كما يمثلون أدوار الضحايا وأهلهم، ومن ثم يعمدون إلى تقييم الأداء بعد كل مشهد.

لا تتوقف نقاشات القتلة عند جماليات المشاهد التي يمثلونها، بل تمتد إلى المشروع نفسه، متجادلين فيما لو كان لصالحهم، أم إدانة لهم. وهنا ينسحب أحدهم من المشروع قائلاً إنه لا يريد قول الحقيقة، لأن بعض الحقائق لا تحمل الخير، ومن الأفضل للجميع التستّر عليها. ومع ذلك، يستأنف أنور وأصدقاؤه التمثيل، إذ لديهم الكثير ليمثلوه حول أفعال القتل: التحقيق، طُرُق القتل، مشاعر الضحايا، المجازر الجماعية، الذل، وأيضاً الكوابيس التي لا يتوانى أنور عن تجسيدها وتصويرها، مُعتبراً أنها متأتية من أرواح البشر الذين قتلهم.

وبالتالي هناك فيلمان في "فعل القتل". الفيلم الأول هو الذي يصنعه القتلة، والثاني هو فيلم أوبنهايمر. نوايا الفيلمين متعاكسة تماماً، بين رغبة التباهي عند القتلة، ورغبة الإدانة عند أوبنهايمر. ويستمر تنوّع مستويات السرد إلى أن تحين اللحظة التي يتواجه فيها الفيلمان: عند تجسيد أنور دور الضحية، إذ يُصاب بالتعب بعد إعادة تمثيل المشهد لمرات، ويلاحظ بعضهم دمعته، فيقدمون له الماء، ليتوقف عن التمثيل.

لاحقاً، يشاهد أنور المشاهد التي مثّل فيها دور الضحية. يتحدث عن إحساسه بالرعب، وانعدام الكرامة أثناء تأدية المشهد. يتساءل إن شعر الضحايا الحقيقون بما شعر به أثناء تمثيله دورهم. يجيبه أوبنهايمر من وراء الكاميرا بأن القتلى الحقيقيين كانوا أكثر خوفاً، لأن فعل القتل كان فعلاً حقيقياً. ينصت انور جيداً، لكنه يعود ليؤكد بأنه شعر بالخوف حقيقةً. يبكي، ويتحول كلامه عن أفعال القتل إلى ندم، قبل أن يرتد عن ندمه، ويتسلّح بمبرراته مرة أخرى.

يستدعي أنور أحفاده ليشاهدوا ويعجبوا بجدّهم وهو يمثل دور الضحية؛ ليعود بعدها إلى أحد الأمكنة التي قَتل فيها، حقيقةً وتمثيلاً، ويدافع عن نفسه قائلاً: "كان عليّ أن أقتلهم، وكان عليهم أن يموتوا". ثم يعاود التمثيل وحيداً دون أدوات أو مكياج. يتقيأ. يعاود التمثيل والتبرير. يتقيأ مرةً أخرى.

حصل "فعل القتل" على جوائز عديدة، وأثار مواقف متباينة في إندونيسيا. وفي هذا السياق، استنكر بعضهم الفرصة التي أعطاها أوبنهايمر لـ"المنتصر" كي يقول التاريخ مرة أخرى على طريقته. ولا عجب في هذا الاستنكار، فالفيلم الذي نتج عن ذلك، جاء استفزازياً لأسر الضحايا والمتعاطفين معهم، كما أتى مُحرجاً للحكومة الإندونيسية ومثيلاتها في زمننا الراهن.

المساهمون