يحار المرء في تقييم كتاب جون بولتون الصادر أخيراً بعنوان "الغرفة التي شهدت الأحداث"، عن الفترة التي قضاها في البيت الأبيض مستشاراً للأمن القومي للرئيس الأميركي دونالد ترامب. هل هو مذكرات الرجل عن 18 شهراً قضاها في البيت الأبيض، أم تصفية حساب مع رئيس لم يكن على قدر المسؤولية برأي مستشاره، ولم يستمع لنصائحه القيّمة حول التدخل في كل بقاع الأرض، رئيس غير مبدئي ولا يفكر سوى بالمال ويدير البلاد كإحدى شركاته؟
أيا كان نوع الكتاب، قد لا يكون هناك خلاف بين من سيقرأه على رداءته. رداءة في الأسلوب، إذ يتميز بلغته التبسيطية حد استخدام كلمات وعبارات شبه عامية (لا يسع المرء إلا أن يقارن الكتاب بما كتبه كل من سبق بولتون في هذا المنصب)، ورداءة في المضمون، أولها اعتقاده أن آبي أحمد هو رئيس إثيوبيا وليس رئيس وزرائها (ص 425)، وليس آخرها القفز المستمر بين الأحداث من نيسان/ إبريل 2018 حتى أيلول/ سبتمبر 2019 بشكل يتسبب بصداع وضياع وعدم تركيز.
كتاب جون بولتون كتاب تافه، كُتِب عن شخص تافه، لم يكن لينال بالطبع كل هذا الاهتمام لو لم يكن عن الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة. كتاب من شخص عنصري، ويميني، ومتطرف عن شخص آخر عنصري، ويميني ومتطرف لكن ليس بالمقدار الذي يرغبه الأول: وهذا بيت القصيد. لو كان ترامب قد حقق أحلام وتمنيات بولتون بسياسات أسوأ لما كان الكتاب قد صدر، ولما كنا وجدنا أنفسنا أمام كتاب نميمة بحت.
لو حقق ترامب أحلام بولتون بسياسات أسوأ لما صدر الكتاب
لكن بولتون في ما فعله لا يشذ عن قاعدة اعتمدها معظم مستشاري الأمن القومي (وغيرهم من الموظفين الكبار في الإدارات الأميركية المتعاقبة) في السنوات الخمسين الماضية. تنتهي الولاية، يختفون عن الأنظار لفترة قصيرة ومن ثم يعودون بصفقة مع دار نشر كبيرة للكتابة عن الفترة التي قضوها في البيت الأبيض. هنري كيسنجر (ولايتا ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد)، كولن باول (رونالد ريغان)، والت روستو (ليندون جونسون)، زبغنيو بريجينسكي (جيمي كارتر)، وبرنت سكاوكروفت (جورج بوش الأب)، وغيرهم سبقوا بولتون وكتبوا عن سنوات وأحداث غيّرت شكل العالم في حينه.
إضافة بولتون إلى هذه المؤلفات تنبع أهميتها الوحيدة (إضافة الى النميمة والمعجبين بهذا النوع "الأدبي") من أنّه واحد من بين ستة مستشارين للأمن القومي في ولاية واحدة لترامب (اثنان منهما بالوكالة ريثما تم تعيين أصيل) في سابقة لم تحصل منذ انشاء المنصب في عهد الرئيس الأسبق دوايت آيزنهاور منتصف خمسينات القرن الماضي. ففيما بقي كسينجر ست سنوات في منصبه مثلاً (استقال نيكسون وبقي هو مستشاراً لخلفه جيرالد فورد)، بولتون كان ثالث مستشار أمن قومي أصيل لترامب منذ بدء ولايته فيما مر على المنصب عينه في ولايتي الرئيس الأسبق باراك أوباما ثلاثة اشخاص، مقابل شخصين في ولايتي جورج بوش الابن وكذلك الأمر في ولايتي بيل كلينتون.
لا يخبرنا الكتاب أسراراً فاضحة بالمعنى الذي قد يطيح بترامب، لكنه يؤكد انطباعاً بأنّ الرئيس الأميركي لا يصلح لكي يكون مدير مؤسسة حتى، فما بالك برئاسة "أقوى دولة في العالم". الرجل يدير البلاد كأنّها شركة خاصة ويرغب بأن يكون لكل شيء ربح صاف. فها هو يطلب من الرئيس الكوري الجنوبي مون جاي إن أن يدفع المال لقاء وجود القوات الأميركية في بلاده (في الوقت الذي تسعى سيول بكل قواها لتحقيق سلام مع الشمال ولم يعد يعنيها الاستنفار العسكري الدائم معه) وكذلك من أنجيلا ميركل، ومن رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، ليغط في النوم لما تبقى من وقت الاجتماع بهذا الأخير (ص 385). ثم لا يتوانى عن الشكوى بأن التمارين العسكرية والمناورات تكلف الكثير من المال (ص 85) وأنّه لا داعي لإجرائها ليتبين أنّ لا أحد فعلياً فسر له حين وصل الى البيت الأبيض لماذا تقوم الدول الكبرى بالمناورات والجدوى من ورائها.
رئيس جاهل مصاب بوسواس المؤامرة ويخاف حتى من مترجمته
نكتشف من الكتاب أيضاً أن ترامب مصاب بوسواس المؤامرة: يشتكي بأنّ هناك من يمنع عنه اتصالات إيمانويل ماكرون وفلاديمير بوتين (يتضح أن صهره جارد كوشنر هو من يقوم بذلك)، ولا يرغب بوجود مترجمته الخاصة في لقاء جانبي مع بوتين في قمة الدول العشرين في بوينس أيريس عام 2018، ويطلب منها في لقاء ثان مع الرئيس الروسي ألا تكتب ملاحظات وأن تقدّم تقريرها لاحقا لمايك بومبيو ولبولتون استنادا الى ذاكرتها حصراً. في المقابل، يتضح عدم ثقة بومبيو وبولتون وكبير موظفي البيت الأبيض جون كيلي به، إذ أقنعهم بومبيو بعدم ترك ترامب وحده لخمس دقائق، واتفقوا على ضرورة البقاء الى جانب رئيسهم خلال لقائه مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون كي لا يرتكب الحماقات.
يؤكد لنا الكتاب الإعجاب الكبير الذي يكنه ترامب لكل "المستبدّين" وتملّقه لرؤساء الصين وكوريا الشمالية وتركيا وروسيا وفق بولتون. فها هو يؤكد لرجب طيب أردوغان الذي ناشده حلّ قضية بنك خلق التركي في نيويورك (المتهم بخرق العقوبات على إيران) أنّ المدّعين العامين في القضية هم "جماعة أوباما" وأنّه سيحل المشكلة حين يستبدلهم بـ"ناسه هو" (ص191). ثم يخبر جميع مساعديه والموظفين أن "بوتين يتوق للحديث معي" (ص 459) فيما هو ساخط لأنّ الرئيس الروسي لا يتصل به ولا يرغب بلقائه.
كذلك نقرأ في الكتاب عن التداخل المستمر بين الشأن العائلي والشأن العام، في الوجود الدائم لابنة ترامب إيفانكا وزوجها جاريد كوشنر في اجتماعات حتى مناصبهما لا تسمح لهما بحضورها. أضف إلى ذلك قيام كوشنر بتخطي وزارة الخارجية بشكل متكرر والاتصال بوزراء أجانب للتشاور معهم، ما يثير سخط بومبيو ووزراء آخرين. حين تفاقمت الأزمة بين واشنطن وأنقرة حول قضية القس الأميركي أندرو برانسون والصادرات التركية إلى أميركا اقترح نائب ترامب، مايك بنس، أن يتصل كوشنر بوزير المالية التركي برات البيرق، لأنّ الوزير التركي كما كوشنر صهر للرئيس!
يؤكد الإعجاب الكبير الذي يكنه ترامب لكل المستبدّين
من طرائف الكتاب، ما يرويه عن علاقة ترامب بالرئيس الصيني شي جين بينغ، وتزلف ترامب المفضوح للرجل إذ عبّر له في مكالمة هاتفية في حزيران/ يونيو 2018 عن اشتياقه له، وأنّه أصبح صديقه، قبل طلب مساعدته كي يربح الانتخابات المقبلة عبر زيادة مشتريات الصين من المنتوجات الزراعية الأميركية "ما سيؤثر حتماً على نتيجة الانتخابات" (ص 301). وبالطبع فعل ما بوسعه كي يرضيه، فرفع العقوبات عن شركة صينية للاتصالات متهمة بخرق العقوبات على إيران وقال لـ "شي": "فعلت ذلك من أجلك". ليس مستغربا اذاً أنّه حين يعلّق "شي" على "كثرة الانتخابات" في الولايات المتحدة أن يومئ ترامب موافقاً في خلال اجتماع بينهما، ويضيف إنّ الناس يطلبون تغيير الدستور كي لا يكون هناك حدود لعدد الولايات الرئاسية (ص 297).
من سقطات ترامب وفق بولتون، إصراره على استقبال كيم جونغ شول، وهو أحد مستشاري الزعيم الكوري الشمالي في البيت البيض، لنقل رسالة إلى كيم. يصف بولتون حالته قبل اللقاء، حين هرع لتكديس الهدايا لإرسالها لكيم (في خرق للعقوبات الدولية التي وضعتها أميركا بنفسها) وحين وجد علبة إحدى الهدايا وقد تجعد طرفها وبخ الموظفة لإحضار غيرها. يقول بولتون إنه لم يره في كل ولايته منفعلاً أو متوتراً كتلك المرّة. أصرّ ترامب على لقاء الرجل لوحده مع مترجمته من دون أي من مستشاريه. وبعد اللقاء كان يكرّر على مسامعهم متبجحاً أنّه يمتلك النسخة الوحيدة من الرسالة التي أرسلها له كيم.
لا يستغرب القارئ بعدها حين يعرف أن ترامب طلب من أحد مساعدي بومبيو الذي كان سيلتقي وفداً كورياً شمالياً إخبار الوفد أنّ ترامب "يحب الزعيم كيم كثيراً". في اللقاءات مع كيم لا يخجل ترامب من إظهار افتتانه به، فيخبره مثلا عن إحساسه المسبق بأنهما سيتفقان فيما بينهما، واعتقاده بأنّ كيم يتمتع بشخصية رائعة (ص 109). في لقاء آخر يخبر كيم، بعد اعتراض الأخير على المناورات العسكرية مع اليابان، أنه يعتقد أنها مضيعة للوقت والمال واستفزازية لكيم، وعن قراره بتخطي جنرالاته وإيقاف المناورات، ويضيف أن اقتراح كيم وفر الكثير من المال على أميركا (109 و110)، مشدداً على أنّ رأي الزعيم الكوري الشمالي هو الوحيد الذي يهم (ص 111). وحين يعبر كيم في اجتماع هانوي عن عدم رغبته برؤية أي ضرر يلحق بترامب انتخابياً، يجيبه الرئيس الأميركي إنّه يريد أن يكون كيم سعيدا. ولاحقاً يخبر بولتون أن كيم يكتب له دوماً ويرسل له بطاقات معايدة في عيده.
بولتون ساخط على ترامب، ولذلك كتب ما كتبه. هو رئيس يتأخر دوماً، يسأل مستشاريه لماذا لم يكونوا يعرفون بوقوع اعتداءات قبل حصولها ليخبروه فيتحضر لها. رئيس يعتقد أنّه يجب اعتقال الصحافيين وإجبارهم على الادلاء بأسماء من يسرّبون أخباره من داخل إدارته، ويظن أن فنلندا جزء من روسيا، ويطلب من بولتون أن يمتدحه أكثر على الشاشات كونه يستحق نوبل للسلام، ويقرر إصدار بيان مساندة لمحمد بن سلمان عقب جريمة قتل جمال الخاشقجي وقراءته بنفسه لـ "تحوير الانتباه عن قضية إيفانكا" أي استخدامها بريدها الإلكتروني الخاص في عمل حكومي رسمي (ص 235).
قد لا يضيّع كثيرون وقتهم لقراءة كتاب بولتون، وهم محقون، فالكتاب بصفحاته التي تناهز الخمسمئة، ولو لم يكن عن رئيس دولة تتحكم بمصائر الملايين حول العالم، بحماقاته ووساوسه، لم يكن ليجد مكاناً على رفوف المكتبات. في كل الأحوال، وبعد الفراغ من مطالعته، قد يكون أفضل ما يمكن القيام به هو التخلّص منه كي لا يحجز مكان كتب أكثر قيمة وفائدة.