ذكرنا في مقال "عندما يفهم الحمار ستفهم أنت... لا تقل هذا لطفلك"، أن الكلمة قد تبني إنساناً، ولكنها أيضاً قد تهدمه، وأشرنا إلى أن "الكلمة"، وهي وسيلة التواصل الأساسية بين الآباء والأبناء، إن لم نبذل جهداً لاختيارها بعناية، قد لا تصل رسالتنا المقصودة أو ربما تصل ممسوخة مشوهة.
وبدأنا نلقي الضوء على بعض تلك الكلمات التي تهدم وفي المقابل الكلمات الأخرى التي تبني، فتحدثنا عن كلمات 1) المقارنة، 2) الرفض، 3) الاعتمادية، 4) اليأس واللعن. والآن نستكمل الأمثلة:
5. كلمات التعميم:
أشرنا إلى التعميم بمثال سابق وهو، أن يقول الأب لابنه: "أنت لا تفعل ما هو مطلوب منك أبداً"، والسؤال الذي يسأله الابن في هذه اللحظة هو: ما هو هذا "المطلوب" الغامض؟ وهل كلمة "أبداً" تعني الخيبة في كل شيء؟ وما الحل؟ ومن أين أبدأ؟...
التعميم شر كله، لأنه يحمل من الغموض واليأس ما يصيب المتلقي بالعجز! لذلك يجب أن يكون الكلام محدداً جداً، وخاصة مع الأطفال، فمثلاً: "أنت غير منظم في ترتيب ملابسك"، "أنت كنت مهملاً عندما كسرت اللعبة الجديدة"، "عندما سألتك عن التصرف الفلاني لم تقل لي الصدق"... إلخ.
وليس التعميم مرفوضاً فقط عند تعبيرنا عن رفض السلوكيات، ولكنه مرفوض أيضاً عندما نطالب أبناءنا بالواجبات، فليس مقبولاً أن نقول "كن مرتباً"، " أو"حافظ على لعبك"، ولكن يجب أن يكون الطلب محدداً أيضاً، مثل: "سنتفق معاً على أن تكون مرتباً: تضع حذاءك في مكانه، ترتب لعبك في نهاية اليوم، تضع ملابسك على الشماعة".. وهكذا لا يكون هناك تعميم لا في النقد ولا في الطلب.
اقرأ أيضاً:كيف تكون أباً ديكتاتوريا جميلا؟
6. كلمات قتل الإبداع أو القدرة على الاختيار أو الإضافة:
ولا نقصد هنا بالإبداع أن ندفع الطفل ليصبح مخترعاً أو عالماً في الهندسة الوراثية أو فناناً تشكيلياً، وإنما نقصد: تشجيع قدرته ورغبته في الاختيار أو الإضافة أو النظر للأمور من وجهة جديدة، أو انتهاج سلوك مختلف قليلاً.
من أمثلة العبارات القاتلة في هذا الصدد: "فكرتك جدية، ولكن كثيرون حاولوا تطبيقها وفشلوا"، "هل تتصور أنك ستفهم أكثر مني؟"، "ركز وتوقف عن الفلسفة الفاضية"، "كنا نفعل كذا وكذا، ليتكم تفعلوا مثلما فعلنا"... إلى آخر الكلمات التي توصل مجموعة من الرسائل: أنت ليس لديك إضافة، وإن كانت لديك إضافة فهي غير واقعية أو تافهة أو منحرفة.
وليس الهدم فقط هو أن نستخدم كلمات سلبية في قمعنا لأي فكرة أو سلوك جديد لأبنائنا، بل إن الهدم أيضاً هو أن نستخدم كلمات إيجابية ولكنها فاترة باهتة مثل "برافو"، "جيد"، "شيء جميل"، فهذا أيضاً يجهض الإبداع، لأن المبدع (الذي يضيف أي جديد) هو في الأساس خائف، من الفشل، من سخرية الآخرين، من الجهد المطلوب منه لاستكمال فكرته وإنضاجها وتطويرها.
وبالتالي فهو يحتاج منا ما هو أكثر من التشجيع الفاتر، يحتاج جرعة أعلى من الثقة، يحتاج إلى نبرة صوت مليئة بالحماس ووجه ممتلئ بالفخر والتفاؤل، وكلمات تقول: "فكرة هائلة في كذا وكذا وكذا.. ربما تحتاج أن تجتهد في تطويرها في مساحة كذا وكذا.. وسأنتظر استكمالك لرحلتك"... أو "أبهرتني عندما لونت الصندوق الفارغ ووضعت فيه ألعابك الصغيرة، هذا ذكاء في استخدام الأشياء الزائدة، وأيضاً جمال في المنظر".
ومع الاختيار تأتي المسؤولية، وهنا نوضح أن الفارق كبير بين "حمل المسؤولية" وبين "التبكيت". عندما نشجع أبناءنا على الاختيار، لا شك أن بعض الاختيارات ستكون غير مناسبة، عندئذ يأتي دورنا لمساعدة الطفل على تحمل مسؤولية الخطأ، ولكن هناك فارق بين كلمات "حمل المسؤولية" وكلمات "التبكيت". فعندما نقول له: "ألم أنصحك فلم تستجب لي! حتى تتعلم فيما بعد أن تسمع ما أقول لك!"... هذه كلمات تبكت لتهدم. كان من الأفضل أن نقول: "أنا سعيدة أنك بدأت تختار، وتتحمل نتيجة اختياراتك، وتتعلم منها، ليكون الاختيار القادم أفضل بإذن الله".
اقرأ أيضاً:إذا كان لديك مراهق فاقرأ التالي
7. كلمات زرع الغرور والحقد والتفرد
كما أن كلمات قتل الإبداع هدامة، ففي المقابل كلمات زرع الغرور والتفرد هدامة أيضاً. نحن نريد أن نرسل للابن رسالة أن لديه قدرة على الإبداع والإضافة، وأن له الحق في الاختيار، وأن اختياراته يمكن أن تضيف للحياة، ولكننا لا نريد أبداً أن نرسل له رسالة أنه فوق الناس، وأنه لا شبيه له في الكون، وأن الله خلقه ولم يخلق سواه. وفي هذا الصدد نجد عبارات هدامة مثل: "أنت مختلف عن كل هؤلاء الأغبياء"، "هؤلاء يحقدون عليك لأنك أنت الأفضل"، "أنت أفضل من الجميع ولا بد أن تظل أفضل من الجميع".
أنا لا أسعى أن يكون ابني أفضل من الجميع، ولكنني أسعى أن يكون أفضل ما يستطيع أن يكون، وأن يكون كل إنسان أفضل ما يستطيع أن يكون.. نعم، أحياناً سأقول له: إن فلاناً شخص فاسد ابتعد عنه، أو أقول له: لا أتمنى أن تكون مثل فلان لأنه سيئ الخلق، لكنني لا أقول له أبداً: "أنت سيد البشر".
8. كلمات المن:
كلنا نتعب من أجل أبنائنا، ولا مانع أبداً أن نعبر لهم عن هذا التعب، بل لا بد أن نعبر عنه حتى يشعروا باهتمامنا بهم وحرصنا وحبنا، وحتى يشعروا أيضاً أننا بشر ولسنا آلهة، وحتى لا يصبحوا أنانيين غير شاعرين بتعب الآخرين من أجلهم.
ولكن هناك فرق كبير بين كلمات "المن" وبين كلمات "الإشعار بالتعب"، الأولى عنيفة جارحة متوحشة، أما الثانية فهي دافئة حنونة طيبة. في الأولى نقول: "أنتم يا عديمي الإحساس، ألا ترون ما أفعل من أجلكم وكيف أحترق من أجل من لا يستحق"، وفي الثانية نقول: "أنت لا تدرك كم أتعب من أجلك، أفعل ذلك حباً لك، ويهمني جداً أن تقدر هذا وأن تتحمل المسؤولية كما أتحملها أنا أيضاً".
هذه بعض النماذج لكلمات تهدم وكلمات تبني وليس كلها، وربما نستكملها في مقال ثالث.
اقرأ أيضاً:
هل لديك ما يكفي لسد رمق ابنك عاطفيا؟
علًّمْ ابنك كيف يفكر؟
من يعلب "برجيس" الآن؟!
لا تقل لإبنك الـ"يضربك اضربه"
لماذا تكثر أسئلة الطفل المحرجة قبل المدرسة؟
"أنا أب عصبي".. "أنا أم عصبية"