كان عام 2018 ناجحًا بشكل استثنائي بالنسبة إلى "نتفليكس". فمن خلال مسلسلاتها وتجربة الدراما التفاعلية للمرّة الأولى، استطاعت تحقيق توسّع واضح في إنتاج الأفلام، من ناحية قيمة المخرجين الذين تتعامل معهم، وقدرتها على حصد جوائز في مهرجانات كبرى. أخيرًا، باتت تجذب أسماء لامعة لنجوم سينمائيين، كناتالي بورتمان وويل سميث، والآن ساندرا بولوك، في فيلمها المتاحة مشاهدته على شاشة المنصّة حاليًا: "بيرد بوكس" Bird Box (صندوق الطائر)، للدنماركية سوزن بير.
يُلاحظ أن المنصّة الأميركية مستمرة في اعتماد أسلوب وشكل معيّنين في أفلامها ذات الطابع التجاري، المنتمي إلى نوع جماهيري، كالخيال العلمي والرعب، والمعتمد على فكرة جاذبة أو High-Concept، مع الحفاظ على أماكن محدودة نسبيًا، وعدم استخدام المؤثّرات الخاصة بشكل مبالغ فيه، كي لا تتخطّى تكاليف الإنتاج عتبة الـ50 مليون دولار أميركي. عام 2018 تميّز بأن هذا كلّه نفّذه مخرجون أفضل ونجوم أشهر، ما أدّى إلى اهتمام جماهيري أكبر من السابق.
سوزان بير حقّقت نجاحًا كبيرًا في بلدها، بلغ ذروته العالمية بحصولها على "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي عام 2010 عن In a Better World، قبل أن يخفت نجمها قليلاً مع انتقالها إلى الولايات المتحدة الأميركية. وجودها وراء الكاميرا في هذا الفيلم يبدو غريبًا، لأنه فيلم إثارة في لحظة نهاية عالم، حيث انتشرت وحوش مجهولة قبل أعوام عدّة، ينتحر كلّ من يراها، لأنه ـ كما يُقال في الفيلم ـ "يرى أسوأ مخاوفه تتجسّد أمامه".
في هذا العالم، تحاول أمٌ (ساندرا بولوك) الوصول بطفليها إلى مكان آمن محتمل عن طريق رحلة نهرية بالقارب، سيكون العائق الأكبر أمامها القيام بالمهمة بعد تغطية عيونهم جميعًا كي لا يروا الوحوش.
يملك الفيلم تشابهًا واضحًا لا يمكن تجاوزه مع (A Quiet Place (2018 لجون كْراسينسكي، المعروض مطلع العام الماضي، محقّقًا نجاحًا كبيرًا. فأحداثهما تدور في نهاية العالم، وتحاول العائلة النجاة من وحوشٍ مجهولة بالتخلّي عن أحد أشكال العيش البشري: النظر في Bird Box والصوت في A Quiet Place. ولعلّ نجاح فيلم كْراسينسكي يُبرز الأزمة الفنية في فيلم بيير، وهي أنه لا يتعامل مع فكرته بجدية وجرأة. ففي "مكان هادئ"، جرّد كاتبه ومخرجه الحدث من الأسباب والأسئلة، فهو لم يكن معنيًا بـ"ما الذي حدث؟"، لأن أية إجابة ستكون غالبًا تقليدية ومعالجة سابقًا في عشرات الأفلام. بدلاً من ذلك، ركّز على التجربة السمعية ـ البصرية والفنية التي تُورّط المتفرّج مع الموقف الجاري الآن، وعدم استخدام "الصوت". على العكس تمامًا، جاء "صندوق الطائر"، الذي تتنقّل أحداثه بين الوضع الجاري ورحلة القارب مع الأم وطفليها، والـ"فلاش باك" (الذي ينال حصة كبيرة من الوقت على الشاشة) يستعيد ما حدث قبل 5 أعوام.
أما "مكان هادئ" فلا يُقدِّم إجابات مقنعة على سؤال "ما الذي حدث؟"، بينما "صندوق الطائر" لا يورّط مشاهديه في الرحلة، بينما يعتبر أن "العمى" حلٌّ وحيد للنجاة. ومع هذا، فهو لم يستغلّ ذلك كما يجب.
يمتلك "صندوق الطائر" مشاهد خاطفة، وأداءً لافتًا للانتباه لساندرا بولوك، التي بذلت جهدًا واضحًا في أداء شخصية "الأم"، التي تتغيّر حالتها من عدم الرغبة في الإنجاب إلى المخاطرة والتشبثّ ليس فقط بغريزة البقاء، بل بأمومتها أيضًا. ولعلّ هذا الجزء من الحكاية هو الأكثر شبهًا وقربًا من أفلام سوزان بير في الدنمارك. لذلك، استطاعت التعبير عنه وإكسابه أثرًا عاطفيًا قويًا، بينما الأمور الأخرى ـ المرتبطة بخلق رؤية جديدة، أو شكل فني مختلف عن نهاية العالم ـ كانت ضعيفة وتقليدية وغير مُشبعة، خصوصًا مع الخاتمة التي لا تقدِّم تفسيرات (كما وعد الفيلم خلال أحداثه)، ولا تغلق قوس الحكاية بشكل منطقي.