مع موجة الإصدارات ضمن ما يُعرف بـ"موسم الدخول الأدبي" في فرنسا، كثيراً ما تُظلم الكتب التاريخية والفكرية، حيث تذهب الأضواء عادة إلى الإصدارات الأدبية الجديدة، غير أن كتاب "صناعة الكاتب الوطني" للباحثة الفرنسية آن ماري تياس يبدو مؤهلاً للمنافسة على قائمة الأكثر مبيعاً، على الرغم من كونه يصنّف ضمن جنس كتابة كثيراً ما اعتُبر نخبوياً وهو "المحاولة التاريخية".
نقطة القوة التي يستند إليها العمل هو أنه يأتي في صلب جدالات تخترق الفضاء العام والحياة السياسية والأكاديمية، فلئن بدا السؤال بسيطاً: أيَّ موقع لما يقوله المؤلفون، من كتّاب الأدب إلى المؤرخين، في حياتنا؟ فإنه يفتح على إشكاليات عميقة، خصوصاً وأن تياس ترفقه بباقة أسئلة أخرى حول موقع المؤلفين من السلطة ورواياتها الرسمية، ومن بعضهم بعضاً.
تعتبر الباحثة الفرنسية أن بلادها طوّرت "الكاتب الوطني" بشكل خاص، ضاربة أمثلة أندريه مالرو وجان بول سارتر وألبير كامو، فعلى اختلاف هؤلاء في التصوّرات وأشكال الكتابة والمواقع الاجتماعية والثقافية، فهم جميعاً كانوا تعبيراً على "روح جمعية" - هي بالنسبة لـ تياس - الملهمة لكل أعمالهم، بل إنها تشير إلى كونهم كانوا حريصين على هذا الموقع.
تدرس تياس أيضاً علاقة هؤلاء بمنظومات الاعتراف الأدبي، مثل المواقع الرسمية في الدولة كحال مالرو الذي كان وزير الثقافة في العصر الديغولي، أو من خلال الجوائز الأدبية التي رصعت مسيرة سارتر وكامو. كل هذه العناصر تدعم "الكاتب الوطني"، وتجعل منه سلطة اعتبارية تُقال من خلالها السرديات الوطنية على تفاوت ما فيها من وجاهة ومتانة.
تنبّه تياس إلى أن كثيراً من المياه جرت تحت أقدام "الكاتب الوطني"، بدأ ذلك في منتصف القرن الماضي مع صعود صوت المثقف في البلاد المستعمرة والذي بات يتحدّث بنفس لغة سارتر وكامو، ثم تواصل المد مع ظهور تيارات فكرية وأدبية وفنية تقاوم كل عملية تشييد لمكانة اعتبارية، وصولاً إلى العولمة التي تفضي بنا إلى مشهد اليوم، وهو مشهد لا يمكن أن ننتظر من أي كاتب أن يكون لصيقاً بهوية بلده، ناهيك عن انتظار تحوّله إلى "كاتب وطني".
يجيب العمل بذلك عن تساؤلات تخترق نخب فرنسا اليوم: لماذا باتت الثقافات التحتية مثل الغرافيتي والراب وفيديوهات اليوتيوب مؤثّرة أكثر من محاضرات آلان باديو وكتب ريجيس دوبريه وحصص برنارد بيفو التلفزية؟ إنه كتاب يفسّر كيف أن حركة مثل "السترات الصفراء" قد ضربت بقوة فرنسا في الشتاء الماضي دون أن يكون في الصف الأول مثقفون يحملون خطابها ويجسّدونها. كل ذلك علامات تجعل تياس تذهب إلى أن عودة "الكاتب الوطني" تكاد تكون مستحيلة.