"شارع حيفا": انفعالات ووقائع بلغة بصرية حيوية

02 ديسمبر 2019
يمنى مروان: تمثيل جميل وحضور رائع (بريمو بارول/الأناضول)
+ الخط -
قليلة هي الأفلام العربية المعنية بالقنّاص، وبتفاصيل يومياته و"مهنته"، وبانفعالاته وأحواله وهواجسه وخلفياته ومسالكه، وبارتباطه بـ"أهدافٍ" بشرية، لا علاقة له بها إطلاقا. قليلة هي الاشتغالات السينمائية الساعية إلى تفكيك هذا الكائن، المُقيم في المساحة الملتبسة بين البشريّ والوحشيّ. التساؤلات الخاصة به كثيرة، لكن السينما العربية تبدو كأنّها منفضّة عنه وعنها، والأسباب عديدة، وإنْ تكن غير مهمّة غالبا، فالأهمّ أنّ القنّاص يظهر نادرا في أفلامٍ عربية، تستلّ حكاياتها من أجواء الحروب التي تعيشها بلدان عربية مختلفة.
العراقيّ مهند حيال يخوض تلك التجربة، من دون أنْ يحصر "شارع حيفا" (2019) بالقنّاص وحده. فالنصّ السرديّ مفتوح على نزاعات تمزج الاجتماعيّ بالطائفيّ، وتحوّل الشارع نفسه في بغداد إلى فضاء مفتوح على القهر والدم والصدام. ورغم أنّ القنّاص يحتلّ واجهة المشهد، قبل أن تنكشف ـ شيئا فشيئا ـ مسائل كثيرة متعلّقة به، وبمحيطين به أيضا، إلا أنّ "شارع حيفا"، المستند إلى حضوره الأساسي، يعاين نفوسا مقهورة وممزّقة، وأرواحا معطوبة ومعطّلة، وتوهانا لا ينتهي بين أزقّة وكوابيس وانكسارات وخيبات. ومع أنّ أحداثا ومَشاهد مُلتَقطة بعينه، أو بعدسة بندقيته المتمكّنة من تعذيب الضحية بدلا من قتلها، يذهب النص السينمائي (مهند حيال وهلا السلمان) إلى ما هو أبعد من شخص واحد، ومن حالة واحدة، ومن حكاية واحدة.

وإذْ يُكثَّف السرد الحكائي والفعل الدرامي، لتحرير النصّ السينمائي من كلّ ثرثرة أو ملل، يتحوّل الأداء التمثيلي إلى مرايا بصرية تعكس دواخل أفراد محبطين ومُهانين ومنقلبين على أقدارهم، من دون بلوغ مرتبة الأمان والنجاة من أهوالٍ تحاصرهم، إنْ لم تكن مقيمة فيهم. وهؤلاء متساوون في المهانة اليومية للثقل التاريخي، كما لراهنٍ مسحوق بسبب حرب وفلتان وفساد وقذارة، في السياسة والاقتصاد والأمن والعلاقات الداخلية والخارجية. والتساوي بينهم غير مكترث بمكانةٍ يستمدها أحدهم من سلطة أو انتماء طائفي أو عشائري، فالجميع مُهانون بشكل أو بآخر، والإهانة تتنوّع أشكالها وتأثيراتها، فالتاريخ حاضر، والراهن قاسٍ، والانتماءات الضيّقة قاتلة، والتمزّقات تصنع شيئا كثيرا من سلوك وتفكير وممارسة.

التكثيف أساسي في "شارع حيفا"، الفائز بجائزتي "سعد الدين وهبة لأفضل فيلم" و"أفضل ممثل" لعلي ثامر، في الدورة الـ41 (20 ـ 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي". هذا ينعكس على سلاسة السرد، وحيوية الانفعالات (وإنْ يبدُ بعضها، أحيانا قليلة، مبالغا به)، والاشتغال على جسد الممثل وروح الشخصية معا، فإذا بالجسد يُعبِّر بطريقة أجمل وأفضل من كلّ قول أو بوح، وإذا بالروح تُظهر ارتباكاتها وهواجسها عبر حركة أو نظرة أو ملمح، فيأتي الكلام لاحقا، كامتدادٍ للتعبير الصامت، المُبيَّن بإضاءة وتصوير (سلام سلمان) يتلاعبان بالألوان والزوايا، لإظهارٍ سليمٍ لما يعتمل في الروح من اضطرابات وقلاقل وتساؤلات.

سلام (علي ثامر) قنّاص يحتلّ، ببندقيته، شارعا وبيئة، رغم أنّ كثيرين يعرفون من أين تُطلَق رصاصاته. أحمد (أسعد عبد المجيد) يُسجِّل أحاديث على أشرطة فيديو، يروي فيها حكاياته وكوابيسه (يعمل مترجما لدى قوات الاحتلال الأميركي)، ويريد تسليمها لسعاد (إيمان عبد الحسن)، التي يرغب في الزواج بها، قبل أن يُطلق سلام رصاصة عليه، فيُصيبه تاركا إياه يتخبّط بألمه ودمه في الشارع، على مرأى من عينيه، فيزيد من تعذيبه بمنع الجميع من مساعدته. أبو مثنى (علي الكرخي)، زعيم محلي، ومع هذا يعجز عن السيطرة على سلام، فهذا الأخير غاضبٌ ومتمرّد، ونزاعاته الداخلية متأتية من ماضٍ قريبٍ، لأحمد علاقة به. هناك شقيقة سعاد، الشابّة نادية (رضاب أحمد)، ودلال (يمنى مروان) التي تحاول الاستفادة من وضعٍ كهذا لاستمالة نادية وإغراقها في أعمالٍ قذرة.

النزاعات حادة بين هؤلاء جميعهم. لكلّ واحد منهم ماضٍ يُرهقه، فيجد في اللحظة الآنيّة مناسبةً لانتقام أو لاغتسالٍ يريده خلاصا، لكن الانتقام يغرق في أهوال كثيرة، والاغتسال معطَّل، والقتل لا يُشفي، والانقلابات مُصابة بأعطابٍ. بعض هذا الماضي مرتبط بسجن أبو غريب، وبالاحتلال الأميركي للعراق (تدور الأحداث عام 2006)، وبما يُنشئه الاحتلال من فوضى وتدمير وبؤس وانشقاقات واصطفافات وعزل وقهر، تُساهم فيها كلّها أطراف محلية مختلفة؛ وبعض آخر من هذا الماضي محمَّل بنزاع طائفيّ تاريخي مرير.

لكن "شارع حيفا" غير معنيّ باستعادة شيء من هذا كلّه، بعيدا عن الخطّ الدرامي، المهتمّ بحكايات هؤلاء الأفراد، في شارع واحد، وفي زمن واحد ينفتح على بعض هذا الماضي عبر كلام قليل، لكنّه غير عابر وغير سريع، فهو يهدف إلى تبيان راهن كهذا، وبعض أسبابه أيضا.

فيلمٌ مُكثَّف في سرده مسارات ومصائر، وفي تصويره مناخات وانفعالات، وفي اشتغالاتٍ فنية وتقنية، تتماسك في ما بينها كي يكون للكلام معنى سينمائي، وكي يتحول الصمت إلى مرايا تعكس براعة تعبير، بملامح وحركات ونظرات أحيانا، عن وجع أو غضب أو رغبة في التنفّس.
دلالات
المساهمون