"سينما بطيئة" تراجع ماضيًا متناقضًا

13 يوليو 2019
"شتاء بعد شتاء": مصائب المجتمع الصيني (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
برصاصة واحدة، أطلقها جندي ياباني على مواطن صيني، وبمشهدٍ قصير تعرّض فيه فلاح للتعذيب على أيديّ جنود وحدة تفتيش عسكرية، اكتفى المخرج الصيني شينغ جيان (1985)، بالجانب العسكري من احتلال اليابان لإقليم منشوريا الصيني (1931 ـ 1945)، تاركًا بقية زمن فيلمه "شتاء بعد شتاء" (2019)، لعائلة الفلاح الصيني لاو سي، ولوضعها البشري، في فترة تاريخية مُظلمة، غطّت عتمتها جوانب من تاريخ المجتمع الصيني، كان لا بُدّ من العودة إليها. فهل يُفسِّر ذلك التوق إلى مُراجعتها اختيارَ شينغ جيان الأسود والأبيض وسيلةً للتعبير عن عتمتها بوضوح أشدّ؟ 

تصعب الإجابة عن خيارات مخرج صيني ينشد تفرّدًا أسلوبيًا عن مجايليه، في سنّ مبكرة من عمره. يختار "السينما البطيئة" مدرسةً له. تأثيرات المجري بيلّا تار (1955)، واضحة في "سبعة أيام" (2015)، وفي فيلمه الأخير، لكن الفن التشكيلي يبقى مرجعه الأساس. يُرتّب مَشاهده ويُحرّك ممثله داخل إطار لوحة شبه ثابتة. يترك للناظر إليها وقتًا طويلاً للتشبّع بها، ولا يجرؤ على منحه له إلا الواثق من متانة مرجعيّاته.

المشهد الأول في "شتاء بعد شتاء" يطول نحو 20 دقيقة. الملل المُتسرّب إلى المتفرّج مُتعمَّد، والخوف من تشتيت ذهنه لا يُقلق مانحُه. بُطء الحركة في مناخٍ "حربيّ"، مشحون بالتوتر، يحتاج إلى منطق سينمائي يبرّره، فيوفّره الصينيّ برسمٍ دقيق لشخصيات محدَّدة الحركة، ومجبرة على الخنوع والاقتياد. الاحتلال الياباني لمنشوريا، ببعديه السياسي والثقافي، مرتّب ليبقى طويلاً. نتاجه المنطقي سيطرة تسلب البشر حريتهم وتمسخ وجودهم. تجعل منهم يابانيين درجة ثانية أو أدنى، وفي فترة الأزمات لا بأس من التعامل معهم كعبيد، كحال أبناء الفلاح الصيني لاو سي (جاو كيانغ) في فترة حاسمة، تتمثّل باقتراب نهاية الحرب العالمية الثانية لصالح السوفييت وحلفائهم.

ضغط الجبهات العسكرية يدفع الجنرال الياباني (هيبينو أكيرا) إلى طلب المزيد من الفلاحين الشباب للعمل في معسكرات السخرة. في الشتاء، تزداد الحاجة إلى قوّة عملهم، ويزداد الطلب عليهم كلّما طال وقت الحرب. شتاء بعد شتاء، يدفع الفلاّحون أولادهم ثمنًا لرغبات سيطرة وتوسع استعماريين. إلى بيت لاو سي، تصل تردّدات الحرب. لقياس قوّتها، يُكرِّس شينغ جيان القسم الأكبر من نصّه لمعاينة دقيقة لأثرها على المرأة الصينية في الجبهات الخلفية من الحرب.

أكثر من خوفه على أولاده، يخاف الفلاح من فكرة قطع نسله، وانقطاع خطّ تواصل اسمه. دوافع خوفه؟ عجز ابنه الأكبر (دونغ ليانجاي)، الذي يدفعه عقمُه وقرارُ والده تطليقه من زوجته كون (وان بينغوان) إلى الهرب من البيت. الابن الأوسط لاو أر (يوان ليجو) ينضمّ إلى المقاتلين الوطنيين. لم يبق إلّا الأصغر الخجول لاو سان (ليو دي). يقبل الزواج بها. لكن، في اللحظة التي يُريد معاشرتها فيها، تداهم غرفتَه وحدة من الجيش الياباني، لنقله إلى معسكرات العمل. طيلة وجودها في بيته، يُعاملها الأب كـ"آلة تفريخ". وظيفتها الأساس بالنسبة إليه إنجاب الأطفال، ووجودها لا يتعدّى كونها عاملة سخرة منزلية، لا تختلف في الجوهر عن وظيفة الفلاحين في معسكرات العمل، وفق المنظور الياباني.

تلتزم كون الصمتَ طيلة زمن الفيلم. تؤدّي وظيفتها كخادمة بخنوع كامل. تقبل بما يقرّره غيرها نيابةً عنها. تعمل بشرط وحيد: البقاء على قيد الحياة في زمن الحرب والجوع. ولأنّ الحروب تكشف معادن البشر، تُظهِر حرب منشوريا بواطن المرأة، وما فيها من رحمة. فجأة، يعود الابن الأصغر من المعسكر هاربًا. تُخفيه عن الأنظار في غرفة مهجورة. توفّر له الطعام والشراب من دون علم والده. تتكتّم أيضًا على مجيء الابن الأوسط، بين فترة وأخرى، إلى قبو المنزل، هربًا من ملاحقة الجيش الياباني. تستّرها عليهما في زمن الحرب يعني موتَها، ونهاية عائلة تتعامل معها ككائن دونيّ. دافعها إلى حمايتهما غريزيّ، كحمايتها ابن الجنرال بعد اندحار جيشه وهزيمته. لم تفكر بمواقف سياسية، ولا بوطنيةٍ مقابل الخيانة. ببساطة، لم تسمح لها عاطفتها بترك طفل شريد يتجمّد بردًا. تحتضنه وتوقف فصلاً من عذاب كائن.
مع انغلاقه المدروس، ينفتح السيناريو قليلاً على عوالم أخرى، غير البيوت المعتمة. يلتقط جانبًا من حياة عائلة الجنرال الياباني، ويعرض تواطؤ معلّم صيني يُدرِّس اليابانية للأطفال، ويعكس حالة ذعر عام تدفع صينيين إلى الخيانة. رعاية الجنرال لزوجته المريضة، واصطحابها معه في الحفلات والعروض السينمائية الدعائية، يوحي بتحضّره، عكس سلوك الصينيين مع زوجاتهم وبناتهم. يُعيد شينغ جيان قراءته للمجتمع الصيني في فترة الاحتلال بمَشاهد متقطّعة، منها عودة الابن الأكبر للانتقام من طليقته، ومحاولة خنقها بعد سماعه خبر حملها من أخيه الأصغر في مخبأه السرّي. إحالة رمزية إلى الذنب الأزلي لحواء. مشهد يجسِّد مفارقة تاريخية، تُبرّئ المحتلّ من تهمة تجهيلهم المتعمّد، وتُبعد شبح محاسبة نقدية لموروث ذكوري سلطوي، يتمثّل بسلوك الأب ووعيه المرهون بظرف تاريخي. حتى قبول الأخ الأصغر الزواج من مطلّقته مغفور له، طالما أنّ أحقاده وعقده النفسية منصبّة كلّها على المرأة. 

هل ساعد تراجع الوعي الاجتماعي الصيني، بدايات القرن المنصرم، على تكريس سيطرة بلد صغير كاليابان على بلد مترامي الأطراف والكبر؟ وهل شكّل تحرير السوفييت إقليمهم المحتل عقدة تاريخية؟ سؤالان يُطرحان في سياق نص سينمائي، اختار شكلاً سرديًا غير تقليدي، تتطلّب مجاراته والمضي به صبرًا من متابعيه، وقبولاً لمبدأ حق السينما في مراجعة التاريخ بالأسلوب الذي يناسب صُنّاعها.
دلالات
المساهمون