"سوق الهرج"... تفاصيل جمال بغداد القديمة

03 يونيو 2018
السوق الأقدم في بغداد (العربي الجديد)
+ الخط -


لا يمكن تخيّل جولة نهارية بجانب الرصافة بمحاذاة نهر دجلة في بغداد، تبدأ من شارع الرشيد مروراً بساحة الشاعر العراقي معروف الرصافي، ثم بشارع المتنبي، أحد أبرز شوارع العاصمة، من دون الوصول إلى السوق الأقدم فيها، وهو سوق "الهرج".

هو السوق الذي يجد فيه القاصد كل ما يحتاجه، من الصابون إلى أساور الفضة والساعات وحتى الثريات الذهبية والتحف والأدوات المنزلية والأغراض المكتبية إلى كل ما يحتاج إليه الناس من لوازم. ومن يدخل سوق "الهرج" لا يخرج إلا ومعه أكثر مما كان ينوي شراءه.

يرجع تاريخ سوق "الهرج" إلى عهد الدولة العثمانية، عندما شق الوالي العثماني ناظم باشا شارعاً سمي باسم شارع (خليل باشا جاده سي) على اسم خليل باشا حاكم بغداد عام 1910. ثم سمي باسم شارع الرشيد، وسمي السوق باسم سوق الميدان، وهي التسمية العربية القديمة له، وهي أقدم من التسمية التركية سوق الهرج، التي تعني الفوضى وعدم النظام.

ومن أبرز المحطات التاريخية الحديثة في السوق غناء المطربة العربية الشهيرة أم كلثوم فيه عام 1935 حين زارت بغداد. وفي السوق أزقة قديمة وجميلة وأثرية، غالبيتها آيلة إلى السقوط بسبب الإهمال الحكومي للمعالم التاريخية، ويحوي دوراً للمطابع المتروكة وبيوتاً ذات طوابق علوية بُنيت من الخشب، لا سيما المحلة المعروفة باسم "الحيدر خانة". ويُباع في السوق كل الأغراض المنزلية القديمة والمستعملة بأسعار زهيدة، فهو مقصد كل العزاب الذي يريدون تأثيث شققهم وبيوتهم، وقبلة المهووسين بالتحف واللوحات القديمة.

مثل كل مناطق بغداد وغيرها من المدن العراقية، تعرض سوق "الهرج" لعمليات تخريبٍ واعتداءات إرهابية وهجمات بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، لكنه صمد أمام الجماعات المسلحة والمليشيات، ولم تثن هذه الأحداث باعة الخزف والأنتيكات والأغطية والفرش والأحذية عن البقاء فيه، فما زالوا حاضرين على الرغم من الخراب والإهمال.

خزف وأنتيكا في سوق الهرج (العربي الجديد) 


يقول أحمد آل بشارة، وهو من أشهر باعة الساعات القديمة في سوق "الهرج" لـ"العربي الجديد"، "في محلي ساعات عمرها 80 سنة، بعضها مصنوع من ماكينات فضية ولا يعمل، إلا أنها تُستخدم للزينة. باشرت العمل في هذا السوق مع والدي وكان عمري يومها 10 سنوات، والآن صار عمري 61 عاماً، وعايشت مرحلة الإقبال الجيد على عكس ما يحدث الآن".

مقصد العزاب لشراء الأثاث المستعمل (العربي الجديد) 


ويضيف "بضاعتنا غالبيتها من بيوت المسيحيين الذين هاجروا وتركوا بغداد بعد تهديدهم من قبل المليشيات التي انتشرت عقب عام 2003".

أما صالح العبايجي، وهو أكبر بائع للأواني النحاسية في السوق، وعمره 72 عاماً، فيصف السوق بالقول: "آخر شاهد على جمال بغداد القديمة". ويكمل لـ"العربي الجديد"، "الاهتمام أصبح قليلاً بالأواني النحاسية لأن المهتمين بالجمال هاجروا وكثير منهم ماتوا، لكن ما زال القليل من الشباب يحب التعرف على أعمالنا وشراء ما نبيعه. عموماً لا يمكن القول إن السوق توقفت حركته، إلا أن الحركة التجارية تتراجع مع تقدم الوقت".

يضم السوق محتويات منازل المسيحيين الذين هاجروا (العربي الجديد) 


عبد السميع الحالوب، يقول: "لدي أنتيكات نحاسية عمرها 100 عام، وأخرى خشبية عمرها 50 عاماً وبعضها غالٍ ويصل سعره إلى آلاف الدولارات، ولدينا أحجار كريمة ودلات نحاسية وفضية بغدادية، لكن ما الفائدة إذا لم يكن هناك سُياح يشترون أغراضنا ويتعرفون على ثقافتنا".

ويلفت في حديثٍ مع "العربي الجديد" إلى أن "أكثر زوارنا يأتون للمشاهدة والتفرج ولا يشترون، فشراء الأنتيكة يعتبر رفاهية، وحالة أغلب أسر بغداد الاقتصادية متوسطة وفقيرة".

أحد المقاهي الشعبية القديمة في السوق (العربي الجديد)


أبو علي المحمدي، وهو صاحب مقهى قديم يبيع الشاي والحامض، ويسميه البغداديون "الجايجي"، يقول إن "السوق لم يعد مثلما كان قديماً، راح زمن البيع الكثير والربح الوفير. صار الناس لا يشترون الحاجات الأصلية والقديمة، بسبب الاستيراد والبضائع الأجنبية التي غزت السوق، لكن ما لا تعرفه غالبية الناس أن البضائع هنا هي الأصلية والجديد كله سلع عادية وليست جيدة"، مبيناً لـ"العربي الجديد" أنه أمضى حياته كلها في سوق الهرج، وهو يحبه كما يحب ولده.
سوق الهرج مقصد الشاري والمتفرج (العربي الجديد)


ويكمل "يحدث أن تمر على بغداد عطلة رسمية تعلنها الحكومة وطنية أو غيرها، فيتفق أصحاب المحال على الإغلاق واتخاذه يوماً للراحة. لكنني لا أستطيع ترك السوق، أتسلل من دون أن يعرفوا للاطمئنان على المحال وأتمشى فيه، ثم أعود إلى البيت في منطقة السعدون".