"ستموت في العشرين" لأمجد أبو العلاء: سينما ضد الموت

15 مايو 2020
أمجد أبو العلاء: أنثروبولوجيا السودان (تيم بي. ويتبي/Getty)
+ الخط -
مشهد البداية يُنذر: في مُقدّمته موت، وفي خلفيته امرأة تحضن رضيعاً، وتتْبع رجلاً لا يسير إلى جانبها، في ديكور صحراوي ترابي أحادي اللون، يُريح العين ويخيف العقل. عجوزٌ مكحّل العينين يبصق في يده، ويضع بصاقه في فمّ الرضيع، والأم والأب راضيان. حصلت بركة القدّيس في بصاقه. سيعطيه لمن يرغب. هذا كلّه في "ستموت في العشرين" (2019) للسوداني أمجد أبو العلاء.

هذا مطلع سينمائي مذهل لحكاية كهنوتية. مذهلٌ، لأنّ فيه تمهيداً سردياً فجائعياً بلغة سينمائية، ولغةً تولّد المعنى، إذْ يجري زحام لنيل ذاك البصاق بانشراح. هذه حقيقة المشهد عارياً، بلا صباغة لاهوتية. فجأةً، ينهار المجذوب في رقم معيّن. يُفسَّر ذلك بأنّه صوْغ شكل المستقبل. حكاية كهنوتية، لأنّها تستبق ما سيقع بقفزة في المستقبل (Flashforward)، وهذا نقيض سرد "فلاش باك".

يَعْرف الكاهن شكل المستقبل، ويلقيه في وجه امرأة حديدية تتقدّم بطفل سيموت قريباً. قُضِي الأمر. لكن، للتجربة الإنسانية آفاق أرحبْ تدمِّر اليقين القدري المطلق.
حكاية ذات أفق أسود، أساسها نبوءة نهاية العالم بالنسبة إلى الطفل، واسمه المزمل (مصطفى شحاتة). من هنا نتابع رحلة في الزمن، تظهر فيها ردود أفعال مختلفة:
أمٌّ تحضُن ابنها الذي سيموت قريباً. أبٌ جبان، وجيران حزانى بسبب ما لمْ يقع بعد. يكشف تفاعل سكّان القرية مع النبوءة المعرفةَ العميقة للسيناريست (أمجد أبو العلاء ويوسف إبراهيم) بأنثروبولوجيا المجتمع السوداني. هناك تصديق مطلق، لأنّ أي تشكيك سيُدمّر سلطة الولي التي تظلّل الناس بالأمان والعبودية والذلّ الطوعي، في محيط تديّن أفريقي يخترق الصحراء الكبرى من الخرطوم شرقاً إلى داكار غرباً. تديّن تديره زوايا عدّة، أقواها الزاوية التيجانية.



كيف يعيش المزمل سريان الزمان؟ ما هو الزمن بالنسبة إليه؟
الزمن عدو مميت. إنّه مِقصلة إعدام. تصير النظرة إلى الزمن أسلوباً وتقنية سرد. العدّاد عقربٌ يقترب من روحه. هذا يُعطّل كلّ فعل إيجابي. يرفض الشاب التعلّم. السبب؟ "ما فائدة التعلّم والعمر قصير؟". حين ذهب إلى الكُتّاب للتعلّم، وجد الأطفال يرتّلون "ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر". جلس ورتّل بعد فقيهٍ، منهجه الوحيد الحفظ والاستظهار. لا مكان للأسئلة.
يتقدّم الإخراج كبحثٍ بصري لعرض لقطات ذات طاقة سردية كثيفة. تحْسب الأمُّ الأميّةُ الزمنَ. ترسم خطوطاً سوداء بالفحم لعدّ السنين. نحسبُ معها. الخطر يقترب. كلّما مرّ عام، أُضيف خطٌّ أسود على الجدار. هذه طريقة المخرج لجعل الزمن مرئياً للمتفرّج، ولتغطية الثغرة الزمنية (القطع ـ Ellipse). في السيناريوهات الكسولة، يكتبون "وبعد 7 أعوام". تحسب الأم مجدّداً. تشكّ في الحساب، ولا تشكّ في كلام الكاهن.

يخلق التتابعُ ووضوحُ العلاقة مع المُشاهد أثراً تعبيرياً. هناك تعارضات زمنية تغذّي الدلالة. يتزامن عرس الحبيبة مع تجهيز الكفن. تجري المَشاهد الأكثر تأثيراً في الليل، في حكاية كهنوتية تصادر المستقبل، وتعطِّل الزمن بين لحظة الميلاد ولحظة الموت المفترضة.
يعرضُ الفيلم أنثروبولوجيا الموت، المبنية على أحاسيس الخوف والفقدان في بيئة تقدّس الموت. كلّ حكاية من دون عمق سوسيولوجي مجرّد شجرة بلاستيكية لا جذور لها. يحكي الفيلم سيرة شخص (شجرة)، وعلى المتفرّج أنْ يكتشف وضع الغابة (المجتمع) من خلال سيرة تلك الشجرة. هنا، لا جدوى من التعليم والكدح والحبّ. يكفي انتظار الموت. استبطن البطل مشروع موته، إلى أنّ صار قلقه: كيف سيموت؟

يتغذّى التلقّي الدرامي مِن خوف المتفرّج على ولده من نبوءة مشابهة. النبوءات الشريرة لم تظهر في السودان، فهي قديمة، لأنّ "الفكر الأسطوري يشكّل جانباً من الخريطة المعرفية لكلّ فرد منا. فكرٌ يدفع الناس إلى تَمثّل العالم على أساس وجود قوّة خارقة تقرّر مصيرهم مسبقاً". ("علم الاجتماع الديني، الإشكالات والسياقات"، سابينو أكوافيفا وإنزو باتشي. ترجمة عزّ الدين عناية، "هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث ـ كلمة"، الطبعة الأولى، 2011، ص. 83). أشهَر التراجيديات اليونانية مبنية على نبوءات معبد دلف. رؤيا يوسف نبوءة فلّاحية زمنية، تغطّي 15 عاماً.

باستثمار هذا التراث السردي، نجح الفيلم، لأنّ نسقه العام مستنبط من اللاوعي الجمعي. يتحقق ذلك بالتركيز على قصّة تجري في بيئة مألوفة للمتفرّج، لكنْ تخترقها مساحات من الانحرافات والمفاجآت.
ما هي مفاجآت "ستموت في العشرين"؟
تجري الأولى في النسق الأسطوري نفسه. لكسب الوقت، تقصد الأمّ كاهناً منافساً. توسِّع الدائرة. تقصد 7 قِببٍ لطلب الشفاعة من ولي آخر لإبطال النبوءة المشؤومة. ترشو الأم الولي المنافس بقربان (أرنب أبيض)، لعلّها تحصل على زمن إضافي لابنها. لكن حركة صغيرة تفضح. فالولي الجديد يرشّ المزمل بالماء المبارك مع لمسة زائدة فاجرة. هكذا نسف المخرج هذا النسق.

تقع الثانية حين تعرّف المزمل إلى شخص سافر إلى بلاد العالم كلّها، وعرف الخواجات، وعاد إلى القرية ليستقرّ فيها. شخص ليس كاهناً، لذا فهو ليس واثقاً من شيء. تركيزه كلّه منصبٌّ على زمنه الآنيّ. إنه عمّ سليمان (محمود السرّاج)، الذي يشبه مصطفى سعيد بطل "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح. ما وجه التشابه بينهما؟ شعاره: خمر ونساء وكتب وأفلام. شخص يسكن في بيت له نوافذ كثيرة يدخل منها الضوء. يحيط نفسه بالمتع، ويشغلها بالفن ليوسع دائرة حياته.

شاهد المزمل أفلاماً، فعاد إلى القرية محمّلاً بأسئلة دقيقة: كيف يتوب من لم يعشق الدنيا أصلاً؟ كيف يتوب من لم يرتكب خطيئة بعد؟
للمرّة الأولى، يسمع المزمل الأسئلة، هو المعتاد الأجوبة المحفوظة. يُعلّمه عمّ سليمان الحساب، رمز العقلانية. يبيّن له أنّ الحفظ نقيض الفهم. يعرّي أمامه واقعه بلغة بسيطة تشتبك مع حياته اليومية. الأسئلة لحظة مضيئة في حياة المزمل. بفضل الأفلام، تحسّنت علاقته بحبيبته. هي آخر خيط يربطه بالقرية. رأى المزمل الحبّ، فقرّر أن يعيش في الوقت بدل الضائع. قرر الاستمتاع. السينما ضد الموت.

حين ظهر عمّ سليمان في ثلثه الثالث، انفتح "ستموت في العشرين" على عوالم جديدة. تخلص المزمل من نظرته التصالحية مع واقعه. حصل التحوّل في روح البطل، حين ماتت تمثّلاته عن نفسه، بينما هو حيّ. حينها، ركض تاركاً الزمن الميت خلفه. ركض، لعلّه يستعيد الزمن الضائع.
المساهمون