والتحقيق الثاني هو للشاعر السوري نوري الجراح، وكتابه يحتوي على مقدمة مهمة وحواشٍ وشروحات تساعد في فهم أهمية هذه الرحلة التي قام بها "كاتب ديوان سلطاني" مغربي في سنة 1690 إلى إسبانيا، في عهد أقوى ملوك الدولة العلوية، السلطان مولاي إسماعيل، وذلك ليفاوض ملكها كارلوس الثاني لافتكاك أسر 500 من الأسرى المغاربة والأندلسيين يوجدون في السجون الإسبانية واسترجاع ذخيرة مهمة من الكتب مؤلفة من خمسة آلاف مخطوط إسلامي هي بمجملها مكتبة السلطان مولاي زيدان التي تعرضت للسطو على أيدي قراصنة إسبان، عندما كان البحارة المغاربة ينقلونها من مدينة آسفي إلى مدينة أغادير عبر البحر.
بدون شك، فإن المفاوضات التي قادها، كما هو مبين في نص الرحلة ذاتها، قد انتهت إلى الفشل، فلا استطاع الإفراج عن الأسرى المغاربة ولا استرجع المكتبة الغنية بوثائقها، لكن المكسب الوحيد، هو الحصول على هذه الرحلة القيمة، التي تعتبر من بين أهم الرحلات وأقدمها، التي قام بها عربي إلى البلاد الأوروبية.
مسار رحلة الوزير الغساني، بدأ من مدنية مكناس عاصمة حكم السلطان المولى إسماعيل، ومرّ عبر جبل طارق فسبتة وقالص وسانت ماريا والبريجة ووصل إلى غرناطة فقرطبة ثم مر بمدينة طليطلة وختافي وحل بمدريد في ديسمبر من نفس السنة (1690)، ووصل إلى أرانخوس، وعاد إلى مدريد، ثم قفل راجعا إلى المغرب، عبر طليطلة، حيث انقطعت أخبار الرحلة.
راهبات وفتيات
تحبل رحلة الغساني بالكثير من الأخبار والمواد التاريخية والمعلومات المهمة جغرافيا وثقافيا، وتوقف عن التقاليد والعادات الإسبانية المسيحية، ومن ذلك وصفه للراهبات في مدينة لينارس القريبة من مدينة اندوخر، وقد وثق مشاهداته لـ الكنبيطوا، أو الدير، في زيارة نقتطف منها وصفه الدقيق للرباهبات وطرق عملهن وآدابهن وصرامتهن في الدير.
يقول "ودخول المرأة للنبيطو هو بمثابة موتها، إذ لم يبق لها أرب في شيء من الدنيا، إلا من دخلت منهن صغيرة السن قبل البلوغ، فتستشار حينئذ وتخير في أمرها، ويلقى لها أمر نفسها. فإذا آثرت ذلك الوضع وأحبته، وقالت لا أرب لي في الخروج، ولا في الزواج، بعد أن يخلى بينها وبين نفسها، ويشهد عليها بقبول ذلك، ويؤخذ عليها العهد والمواثيق على مقامها هناك بغرضها، وأنها لم يبق لها تعلق ولا تشوق إلى شيء من أمور الدنيا، وإن هي أحبت الخروج والتزويج، لا تمنع منه، وتجاب إليه. فمنهن من تؤثر المقام هنالك لأجل الألفة، ومنهن من تؤثر المقام لما يغلب على ظنهن أنهن على طريق قويمة، ومنهن من تخاف السبة والعار بخروجها، بعد أن حسبت من الراهبات".
ويستطرد في وصف سلوك الراهبات، وفي إقدام بعض الآباء على تسليم بناتهم للدير من أجل التعلم والحصول على تربية جيدة، وهؤلاء الفتيات، غالبا ما يكن بلباس مختلف حتى إذا بلغن، جرى سحبهن من الدير وتزويجهن.
لصوص وقطاع طرق
يسلط الغساني الضوء في رحلته على ظاهرة شديدة الأهمية، وتتعلق بتفشي اللصوصية وقطاع الطرق في تلك الفترة الزمنية في إسبانيا، يكتب: "وأما من أحب التأنق في المأكل والمشرب فنفقته كبيرة وملازمه كثيرة، ومع هذه العمارة وكثرة المداشر والقرى والمدن التي في إسبانيا، لا يقدر أحد أن يسافر وحده في مدة مسافات جبل سير مدينة وجميع بلاد مانشا، لما فيها من الخوف وكثرة اللصوص.
يكتب: "فلقد كان النصارى الموكلون بنا في طريقنا حيث وصلنا هذه البلاد يستعدون ويتأهبون، ولا يحبون أن يتقدم أحد من أصحابنا ورفاقنا، ولا يتأخر، مخافة من الآفات. وإذا لقينا ثلاثة ناس أو أربعة نسألهم عن مرورهم بالعدة القليلة، فيقولون من مثل هؤلاء يخاف، لأنهم إذا وجدوا غمرة في هذه البلاد المخيفة يفعلون ما يفعله اللصوص، ولا يعرف لهم عين ولا أثر".
ثم يسرد كيف التقى أحد المتلصصين المهرة، وكان خلاف مع الملك الإسباني، حيث أرسل في أثره ثلاثمائة رجل فلم ينالوا منه، وعادوا بخفي حنين. وهذا المتلصص، يصفه الغساني بالرجل الشجاع، وقد اعترف له أنه لو كان متأهبا للسفر، لسار معه إلى السلطان المولى إسماعيل ولطلب منه كتابا كي يوقره ملك إسبانيا.
يتحدث الباحث المغربي الطيب بياض في معرض تحليله لرحلة الغساني، ودقة الرجل والملاحظات الكثيرة التي بسطها، في دراسة منشورة في مجلة "زمان" المغربية، المتخصصة في التاريخ، يقول: وإذا كان الغساني تحدث عن مظاهر أخرى للاحتفال والترويح عن النفس عند الإسبان، من قبيل مصارعة الثيران أو التزلج على الجليد دون استهجان ولا نفور، فإن السفير المغربي عاد إلى أسلوب الامتعاض عندما تعلق الأمر بإحدى المحرمات في دينه ويتعلق الأمر بالخمرة: "فدخلنا دار الكليريك المذكور، ففرح بنا فرحا شديدا، أرانا جميع ما عنده من الصور وما في معناها. إذ كان معجبا بها، وكثيرا ما تضرع ورغب في أن نساعفه في شرب شيء من الخمر أطنب في شكره، وزعم أنه قديم عنده وله سنين عديدة، فقلنا له لا يحل ذلك في ديننا، ولا يسوغ في ملتنا، فجعل يشفق من شربنا الماء البارد صرفا".
وبينما أفرد الغساني حيزا مهما للحديث عن المؤسسة البابوية وعن بعض الطقوس الدينية للإسبان، دفع تحامله على معتقد الآخر محقق الرحلة ألفرد بن جرجس بن شبلي البستاني في نسختهما المنشورة بطنجة سنة 1939 إلى حذف جزء من المتن الرحلي "رأى فيه شططا من كاتب مسلم يتطرق إلى موضوعات تتعلق بالمسيحية". على حد تعبير نوري الجراح.
ومن حسن حظنا أن ظهرت نسخة جديدة لنفس الرحلة للباحث المغربي عبد الرحيم بنحادة، غير تلك التي قدمها نوري الجراح خالية من البتر، ويكفي لأخذ فكرة عن درجة تحامل الغساني على ديانة الآخر أن نستعين بمقتطفات من نص الرحلة الكاملة إذ قال سفيرنا: "وسبب تصمم هؤلاء الكفرة، أخزاهم لله على اعتقادهم الفاسد، هو اتباعهم للبابا الذي يدين لهم الأديان ويشرع لهم الشرائع، وهو في ذلك ناهج منهج أهل الزيغ والضلال من المتقدمين مثل بولس…". ثم أضاف: "وقد ألزم البابا أيضا – قبحه لله – سائر الأجناس الصليبية في مسألة الإقرار زيادة أخرى في عيد الفصح…".
شكوك حول المهمة
سيلتقي الوزير الغساني بالملك الإسباني كارلوس الثاني، وسيسلمه رسالة السلطان المولى إسماعيل، التي تتضمّن مطالب غير قابلة للتأجيل، وعلى رأسها إطلاق سراح 500 أسير مسلم، واسترجاع المكتبة المنهوبة والمصادرة. لكن هل استجاب كارلوس للمكتوب السلطاني؟
يجيبنا الغساني بنص مبهم، لا يحسم الأمر، يقول: "وحين انفصلنا عنه (الملك الإسباني كارلوس الثاني) يوم ملاقاتنا معه وناولناه الكتاب السلطاني دفعه إلى النصراني الحلبي المترجم ليترجمه ويعجمه، فلما عجم الكتاب ورأى ما فيه وما أشار به عليه أمير المؤمنين أيده لله من إعطاء خمسة آلاف كتاب وخمسة مائة أسير، ثقلت عليه الوطأة العلوية، ولم يدر كيف يتلقى هذه الإشارة، وعرف أنها عزمة من الملك نصره الله، ولم يمكنه إلا الاضطراب، لما أُشرب في قلبه وقلب أهل ديوانه من صيت هذه الإمامة العلوية وعلو همتها أبقاه الله بمنه، ووقعت المشورة منه في ذلك مع أهل ديوانه، فرأوا أن الإجابة إلى ما دعاهم إليه المولى الإمام، والامتثال لأمره المطاع، أعزه الله، أولى لهم وأوفق (…) وحيث كان المولى الإمام أدامه الله وأيده جعل لهم في كتابه الشريف فسحة إن عدموا أجود الكتب أو تعذر حالها أن يجعلوا عوضها كمال ألف أسير من المسلمين، وحاولوا ترك بعض آلاف، فلم يجدوا له مجالاً ولم يمكنهم إلا المساعفة والامتثال.
ابنة دوق تتزوج خالها
يرصد الغساني عادات الإسبان، ويتلقط المظاهر الغريبة، ومن ذلك ما يتعلق بزواج شخصية كبيرة بابنة أخته، بمباركة من البابا، يكتب: ولقد رأيت بمدريد امرأة صغيرة ذات حسن وجمال ومنصب من أكابر أهل إسبانيا، وقد تزوجها خالها، وهو رجل يسمى دون بيدرو ذي أراغون، وهو من أبناء ملوك أراغون، فتزوج ابنة أخته بإذن من البابا، وكان كبير السن، فخاف أن يموت من غير عقب ولم يكن عنده من يورثه، فأخذ الإذن من البابا فتزوج ابنة أخته، ومات قرب تزويجه منها وخلف لها من الأموال ما يُعجز عن حسابه.
ولقد حاول بعض الأعيان تزويجها بعده فلم ينالوا منها شيئا، لكونها من أهل إسبانيا، وهي ابنة دوكي يسمى دوكي مدينة سليس، وكان له عند الطاغية (الملك) منزلة الوزارة والحجابة والدخول عليه في فراشه، وغير ذلك. وكان له مع ذلك زيادة موروثة ورثها سلفه من قديم هو وأبوه وجده، حيث كانوا من نسل ملوك إسبانيا، فكان إذا سلم على الطاغية يقول له: نحن بعدكم. يعني أن له الولاية بعدهم، إذا انقطع عقبهم ولم يخلفوا من يرث الملك.
قدح في إسبانيا الصليبية
يمكن اعتبار هذا النص دلالة على تعصب الوزير الغساني، وعلى رؤيته الحدية للعالم، وللديانات، فكل ما عدا الإسلام هو بلاد كفر بالنسبة إليه. وحتى وهو يصف إسبانيا الصليبية، فإنه لم يتخلّص من عقدة الأندلس وتراجع الحكم العربي فيها، وتحسر على الإسلام والمسلمين.
يقول: ولما كان العيد، خرج سائر النصارى والقسيسون والرهبان، والخصوص منهم والعموم، وأخرجوا جميع ما عندهم من الصلبان التي يعبدونها، وطافوا بها في جميع أزقة المدينة، وقد حملوا من الشموع الموقدة نهاراً ما لا عد له. ولا يقدر أحد أن يترفع على حمل الشموع والمشي أمام الصلبان والصور، ويقصدون بذلك من كنيسة إلى أخرى، مظهرين مع ذلك حزناً وترحاً. وإنه في زعمهم كذلك فُعل بالمصلوب، فيمرون بصورة المسيح في بستان يصلي، وقد نزلت عليه صورة ملاك في يده كأس المنية وهو يتلقاها بيده. ثم يمرون بصورة أخرى ومعها من الحرس طائفين زاعمين أنهم كذلك تألبوا على المسيح، ثم يمرون بالصورة وقد حمل صليبه على كتفه، ثم يمرون به مصلوباً، ثم يمرون به بعد ذلك في نعش محمولاً بعد أن نزل من الصليب. فمن النصارى من يمثل نفسه بذلك المصلوب فيغطي وجهه زاعماً أنه يختفي ولا يعرف، إلا أن خلفه خادم له، أو صاحب، يحفظه لئلا يلحقه غشيان من كثرة الجلد الذي يجلد ظهره، فتجد الدم منحدراً على رجليه.
وبعضهم يصلب نفسه وجسده، فيربط يده ورأسه على عمود من حديد، ويمر كذلك في الأزقة أيام البرستيسيون (الطواف) وقد غطى وجهه لئلا يعرف. ومن الغد أيضاً يخرجون بصورة المصلوب وقد صلب، ويمرون بعد ذلك وقد أنزل من الصليب، ثم يمرون به وقد دفن في القبر، ويقرؤون مع ذلك ألحاناً محزنة، فيدخلون الكنيسة ويخفونه ويطفون المصابيح والشموع، ويعلقون على الكنيسة ثياباً سوداً ويغلقون أبواب الكنائس، ولا يضرب ناقوس، ولا يركبون كدشاً ولا فرساً مدة أيام البرستيسيون.
ومن الغد، وهو اليوم الثالث من الفصح، عند منتصف النهار يفتحون الكنائس ويشعلون ويقدون الشموع ويزيلون المعلقات السود ويبدلونها بألوان أخرى، ويضربون النواقيس، ويفرحون، ويطبعون قراطيس صغاراً فيها صور، زاعمين أنها صور الملائكة. ويكتبون بين الصور حروفاً بالكلدانية، وهي (ألوليا) ومعناها: افرحوا افرحوا.
فحين تضرب النواقيس تتطاير القراطيس منهم ويتلقونها ويتهادون بينهم فرحين مسرورين، في ظنهم بشرى رفعه، لاعتقادهم الفاسد: صلب المسيح ودفنه ورفعه من القبر. وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم، إلا اتباع الظن، وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه، وكان الله عزيزاً حكيماً.
ولقد اغتر هؤلاء الضلال بما هم عليه مصممون من الاعتقاد الفاسد والضلال البين، والتنكب عن النهج القويم والمحجة البيضاء، ودلاهم الشيطان بغرور، وأضلهم عن سواء السبيل. فلقد تصمموا على الكفر، ونهج بهم البابا، قبح الله سعيه، منهجاً جائراً على الطريق، هو ومن تبعه من أبناء جنسه الذين على مذهبه، وطريقه بما يسري منهم إلى العامة من الداء العضال، والمادة التي لا يحسمها إلا السيف. فإن من عامتهم من إذا تكلم معه ويسمع عن الدين وما عليه المسلمون من النهج المستقيم، يصغي إلى ذلك ويشكره ويستحسنه ولا يأنف من سماعه، كما شاهدناه منهم مراراً.