أكثر من عقد يفصلنا اليوم عن رحيل محمد شكري، الكاتب المغربي الذي جلبت له "الخبز الحافي" روايته أو سيرته شهرة عالمية. وإن كان رحيل شكري غيّبه، فقد خلّدته كتابته، وأصبحت مدينة طنجة تقترن أدبياً بشكري كواحد من المشاكسين الكبار الذين لم تتكرر تجربتهم، والذين مرّوا من بوابتها حتى أصبح اسمه مقترناً بأمكنتها أيضاً.
كانت حياة شكري ولا تزال محوراً لاستعادات مختلفة ومتنوعة؛ سينمائية أدبية ومسرحية، وفي سياق الاستعادة المحتفية بهذه الشخصية أنجز الكاتب المسرحي المغربي الزبير بن بوشتى، العام الماضي، مسرحية مستلهمة من حياة شكري، والتي تُعرض في طنجة يومي 13 و 14 من شباط/ فبراير الحالي، كما تعرض على خشبة "محمد الخامس" في الرباط لاحقاً.
غير أن بن بوشتى لم يعتمد فقط على سيرة شكري من خلال "الخبز الحافي" أو "زمن الأخطاء"، بل أيضاً على المشترك الإنساني بينهما ككاتبين تجاورا وترافقا، ودارت بينهما أحاديث شخصية وحميمية لم تتضمنها أي من كتابات شكري.
وعبر تسعة مشاهد تناول بن بوشتى حياة شكري المتناقضة، وحملت كل إضاءة معها جانباً جديداً من حياة الكاتب الغنية. تكشف الإضاءة الأولى عن ديكور مقبرة بلا انتماء ديني، ليست بمسيحية ولا بيهودية ولا بإسلامية، تقف قيّمتها "ميرودة" مندهشة من شخصين واقفين أمامها وظهر الواحد منهما إلى الآخر.
هذان هما "شُكْ" و"رِي" اللذان يبدوان كأنهما تمثال واحد، تكلّمهما فيجيبان كشخص واحد، ولكن ما أن تنطق باسم "محمد شكري"، ينفصل الجسمان عن بعضهما ويقدّم كل منهما نفسه للقيّمة على المقبرة باعتبار أنه هو من تقصد.
يتضاعف ذهول ميرودة، بينما يحاور "الشكريان" بعضهما في ما يشبه المحاكمة، كل واحد منهما يود أن يتخلص من ظلّ الآخر، كل واحد منهما قدّم لميرودة كتاباً: شُك يناولها "الخبز الحافي" بيمناه، وَرِي يناولها "زمن الأخطاء" بيسراه. وكل واحد منهما يصرّ أنه شكري!
تتوالى الإضاءات وتسير أحداث المسرحية، تتغير الأمكنة خالقة من نفس الفضاء فضاءات أخرى، ويتصاعد صراع شُك وَري من أجل إثبات الأصل والنسخة من شكري. فحياة الأخير تحضر في المسرحية على مرحلتين: الطفولة باعتبارها مرحلة البؤس والشقاء والفقر والجوع، ثم مرحلة الكتابة والشهرة، يمتد دور شُك "ليلعب دور الأب" رمز القسوة، الأب الذي قتل أخ شكري، وتلعب ميرودة دور الأم، ثم دور العشيقة، ودور القيّمة.
تكتسب المسرحية قيمتها من خلال ثنائية الصراع التي نجح الكاتب في التعبير عنها، حيث أصبح الحوار والصراع مصدراً أوحد لاستلال الأحداث تدريجياً، وتفكيك حياة شكري ومن ثمة إعادة بنائها دراماتورجياً.
هي إجابة عن السؤال الذي طرحه الكاتب بنفسه: "كيف يعيش المرء صراعه مع أناه؟ لا سيما إذا كان يصعد من صهد القاع". فصراع شُك وري هو صراع شكري مع نفسه، صراع الطفولة والكبَر، صراع الفقر والغنى، بل حتى صراع النجاح والفشل، فقد ظل شكري بحسب الكاتب "يشتكي طيلة حياته من شهرة الخبز الحافي التي سحقت مشواره الأدبي".
وجد فكر الكاتب امتداده لدى مخرج المسرحية عبد المجيد الهواس الذي اعتبر أن البناء التشخيصي الثنائي "يدعونا إلى تبني فضاء يتيح التزامن وتجاور الأحداث؛ فضاء محوري تنبثق منه الأماكن وتتداخل عبره مواجع الشخصيات. صياغة دراماتوروجيات موازية للمحكي عبر الزي ودينامية الإضاءة والأداء الممسرح للممثل".
لا تتوقف مسرحية "رجل الخبز الحافي" على سيرة شكري الأدبية فقط، بل هي عن شخصية ذات حضور طاغ في مدينة طنجة، شخصية بظلٍ وارفٍ نسجت مع الكتابة علاقة متفردة في زمن مبكر، كان يرى فيها الكاتب بن بوشتى شخصية مسرحية بالفطرة، ومن هنا جاء بفكرته عن كتابة هذا النص.