"دين الليبرالية"... إعادة النظر في الخصوصيّة الأخلاقية
تتساءل الباحثة في مقدمتها عن محددات وصف دولة ما بأنها ليبرالية، سواء كانت علمانية أم لا، قائلة: هل هناك حد أدنى من العلمانية - أو الفصل بين الدولة والدين - الذي تتطلبه الشرعية الليبرالية؟
وتضع المؤلفة الأدبيات المركزية الواسعة عند الباحثين نقدياً في قضايا الدين من جهة، والمنظرين الليبراليين المساواتيين من جهة أخرى، تحت المجهر وتحاول أن تقنع الأول بأنه يمكن إعادة صياغة الليبرالية بحيث تصبح أقل عرضة لانتقاداتهم الوجيهة. وإقناع الثاني أن المنظرين النقديين وجدوا ثغرات حقيقية في النظرية الليبرالية، ولا تمارس لابورد أي نوع من أنواع التوفيق بين وجهات النظر، بل تحاول حل الإشكالات من خلال التدقيق الشديد في المصطلحات والمفاهيم تفكيكياً.
ومن الجدير بالذكر أن المؤلفة ألفت كتاباً عام 2008 يناقش جدل الحجاب في فرنسا، عنونته " الجُمهورانية الحرجة/ Critical republicanism" حاولت فيه "أن تغير طريقة التعاطي مع الموضوع بالكامل"، فهي ترى أن الفرنسيين يمنحون الجمهورية والعلمانية سمعة سيئة! بسبب سلوكهم تجاه قضايا حقوق الأقليات.
وما يعطى لابورد أهمية أكبر، هو زياراتها البحثية لدول شديدة التنوع الثقافي والديني من الهند إلى السنغال، إضافة إلى عملها أستاذة النظرية السياسية بجامعة أكسفورد، وقد زارت أثناء عملها على هذا الكتاب الهند -التي تعرفها منذ الطفولة- وهي مسألة مثيرة للاهتمام أن تعالج الباحثة قضايا التعددية الدينية والثقافية وهي تحمل صورة الفسيفساء الأوسع في مخيلتها.
القسم الأول: "قياس الدين"
تتعامل لابورد بجدية مع النقد القائل: إن آفة الطموح الليبرالي لتحديد موقع الدين من الدولة سببه قصور مفهوم "الدين" ليبرالياً، وتأخذ القارئ في جولة واسعة لتدير باقتدار حواراً بين منظري "المساواتية الليبرالية" وناقدي الليبرالية بوصفها تنتهك حرية الأفراد في ممارسة أديانهم بحرية كاملة، وتتفق معهم في أن التصور الليبرالي ينظر لأديان العالم من خلال التصور المسيحي، وهو بذلك عنصري فوقي.
وتنطلق في محاولتها التطويرية لليبرالية من أنه لا يوجد شيء خاص بالدين، يوجب له معاملة قانونية خاصة -كما يتم التعامل معه إلى جانب ذوي الحاجات الخاصة والفئات المهمشة في بعض النظريات والنظم- فليس للدين حقوق خاصة، بل يجب التركيز على كيفية ارتباط القوانين والمؤسسات الليبرالية مع الجوانب المختلفة للحياة الدينية، سواء في جوانبه الاعتقادية أو التعبدية الفردية، أو الرموز الهوياتية، وصولا لعمليات التنظيم الديني والمؤسساتية الدينية.
تهدف هذه المقاربة إلى توسيع نطاق "حيادية الدولة" ليصبح مرتبطا بخصائص تندرج تحتها التعدديات الدينية والثقافية والسياسية.. فيتم معاملة المجموعات المتدينة وغير المتدينة على أساس واحد.
معضلة الإعفاءات
لتوضيح ضرورة تفكيك مفهوم الدين، تطرح لابورد التحديين الأبرزين في تعامل الدولة الليبرالية مع الدين:
الثاني: تحدي الاختصاص القضائي، والذي تؤجل نقاشه إلى الفصل الخامس.
والأول: تحدي البروز الأخلاقي: الذي ناقشته في الفصل الثاني.
و"البروز الأخلاقي" هذا هو حالة وجود مانع أخلاقي لدى المواطن للانصياع لقانون عام، كالخدمة العسكرية الإلزامية أو حلق اللحى للموظفين في قطاعات معينة مثلا -والمانع الأخلاقي ربما استند إلى الدين، أو إلى غيره- ومن المعلوم أن الحق في "الاستنكاف الضميري" عن أداء الخدمة العسكرية تم إقراره في عدد كبير من البلدان تحت تفسيرات وشروط مختلفة.
وتعتبر حالة البروز الأخلاقي هذه من أهم المعضلات ليبرالياً، نظراً لكونها تمثّل نزاعاً بين قيمتين أساسيتين: "حرية ضمير الفرد" و"حيادية الدولة" التي تفرض عليها عدم التعامل مع المواطنين بشكل خاص بناء على اختلاف أديانهم.
تناقش لابورد ثلاث استراتيجيات اقتُرحت لحل هذه الإشكاليات:
استراتيجية الإذابة التي ترفض الإعفاءات على أساس أنه لا يوجد تمييز مُبرر يمكن رسمه بين النظريات الأخلاقية الدينية وغير الدينية.
استراتيجية الدمج في المجال العام التي تعطي للدين ما يعطى للتصنيفات القائمة المستحقة للحماية، مثل ذوي الاحتياجات الخاصة، أو الهويات الهشة، أو الاتحادات المغلقة، وتذكر هنا مثال شرطيين مسلمين طالبا بالسماح لهما بإطالة اللحى في نيويورك.
واستراتيجية التضييق التي تقبل الإعفاء في حالات التعارض الجذري بين تطبيق القانون والمفاهيم التي تعطي المعنى لحياة الإنسان، وانتهاكها يفقد الإنسان نزاهته الأخلاقية وانسجامه مع ضميره، وهي النظرية التي يعمل عليها تشارلز تايلور الذي تم ترجمة العديد من أعماله للعربية.
وتخلص الكاتبة إلى أن الليبراليين -بمن فيهم المساواتيون- لم يكونوا صريحين ولا ناجحين في استجابتهم لتحدي "البروز الأخلاقي" إذ تراوحت نظرياتهم بين مستويات مختلفة من حرمان الفرد من حرية الضمير، كما أنّها فشلت في التعامل مع تحديات البروز الأخلاقي التي لا تستند إلى "الدين" بصورته المعهودة، كالمواقف البيئية أو السياسية.
تناقش الكاتبة في الفصل الثالث فكرة حيادية الدولة تجاه الدين، مناقشة أسباب التأكيد على ضرورة عدم تبني الدولة لدين رسمي، أو تعزيزه في ممارساتها، لتوضح أنّ الحيادية في الواقع حيادية تجاه "الخير" وتجاه مفاهيم المواطنين لكيفية "الحياة الطيبة" بما فيها المسائل الشخصية والعائلة أو حتى البيئية العالمية.
تظهر نقاشات لابورد أنَّ الحيادية تنتج عكسياً "رفض" خصائص أو مواقف أديان بعينها، في حالات مثل تدريس التطور الدارويني والنظرية الجندرية إلزامياً في المدارس، في مقابل رفض تدريس نظرية التصميم الذكي لكونها تعتبر "منحازة دينياً".
وتنهي الفصل بالتأكيد على كون الخير والدين والعدالة مفاهيم تنتمي إلى إطار أوسع يفترض نظرياً أن تشملها جميعاً "حيادية الدولة" ومع ضرورة تحديد الدولة لما هو عادل، وضرورة اختيارها من بين التشريعات المختلفة -التي قد تعارض بعض الأديان- تؤكّد لابورد على ضرورة "تفكيك الدين" للوصول إلى نظرية أدق للتعامل معه.
القسم الثاني: "تفكيك الدين"
تنطلق لابورد في رحلة تفكيك الدين استناداً إلى الآتي: إذا ما حددنا الخصائص التي توجب على الدولة الحياد تجاه الدين، وقمنا بعكسها، فسنصل إلى نموذج "العلمانية الدنيا" ونبدأ التعامل مع خصائص محددة ومعرّفة، وليس مع ظواهر غير محددة مثل "الدين، الخير، العدالة".
في الفصل الرابع أكبر فصول الكتاب وأهمها، تقدم الكاتبة ثلاثة مقاييس معيارية للعلمانية الدنيا: الدولة القابلة للتبرير، الدولة الشاملة، الدولة المحدودة.
- أما الدولة القابلة للتبرير، فتعني قدرة الدولة على تبرير قوانينها "للعقل العمومي" بحجج قابلة للإدراك والقياس والمحاجّة لجميع مواطنيها على حد سواء، فإذا كانت القضية الدينية قابلة للفهم والمناقشة من "العقل العمومي" فإنَّ العلمانية الدنيا "والليبرالية" لا تعارض سنّ قوانين أو تبريرها استناداً إلى مثل هذا المعنى "الديني".
- وأمّا الدولة الشاملة، فتنفي سمة التفرقة المجتمعية في الدين، وعليه إن وجد معنى ديني أو شبيه بالدين لا يؤدي إلى تفريق الناس والإخلال بمبدأ عدم التمييز بين المواطنين، فإن تبنّي الدولة للدين هنا لا تنزع عنها الشرعية الليبرالية.
- أمّا الدولة المحدودة، فتحيل إلى ضرورة رفض "الشمولية" في دمج مدىً واسع من القضايا في إطار أخلاقي واحد، واحترام حق الفرد في اختيار تفاصيل حياته المختلفة، فإن وجد دين أو شبيه بالدين غير شمولي، لم يكن في تبنيّه من قبل الدولة مخالفة لليبرالية لابورد.
وبناءً على إمكانية تبنّي الدين الذي يحقق هذه الشروط الثلاثة، فقد وضعت إلى جانب الدولة العلمانية، "الدولة القدسية" كنموذج لدولة ليبرالية تتبني ديناً رسمياً، وهي النتيجة القصوى التي تعيد تعريف موقع الدين من النظرية الليبرالية بشكل كامل.
المؤسسات "الدينية" في الدولة الليبرالية
في الفصل الخامس تناقش المؤلفة حق المجموعات بإنشاء الجمعيات وامتلاك "الأهلية" أو الصلاحية في تسيير شؤونها الداخلية بعيداً عن قوانين الدولة من خلال التعامل مع النظريات الحديثة للمأسسة الدينية مثل نظريات غارنيت وستفين سميث وفيكتور مونيز- فراتيشلي.
وتشخص المؤلفة مشكلة حد الاختصاص القضائي بشكل مباشر، كأبرز مظهر من مظاهر إعطاء الدولة الليبرالية حق الفصل بين الخاص والعام، الذي يمثّل معضلة أخلاقية لارتباطه بمفاهيم العدالة "التي يفترض أن تقتصر على العام" والخير "التي يفترض أن تقتصر على الخاص".
ورغم النقاش المعمّق لإشكالية الفصل بين الخاص والعام، إلّا أنَّ المؤلفة تأخذ بعين الاعتبار مفهوم السيادة النهائية للدولة على أراضيها كذلك، وتناقش احتمالية حصول "تمييز" ضد بعض الأفراد بناءً على قوانين المؤسسات الدينية الخاصة.
في فصلها الأخير، تبني سيسيل لابورد على نظريتها التفكيكية لإعادة التأكيد على احترام "الالتزامات الأخلاقية" الحامية للنزاهة الشخصية بعد تفكيك المنظومات الشمولية -دينية كانت أم علمانية، أم ذاتية- إلى مجموعة من الالتزامات الأخلاقية التفصيلية، بدل أن تكون كتلة متكاملة.
ولا تغفل لابورد عن مناقشة احتمالية ادّعاء الفرد وجود التزام أخلاقي يفرض عليه ارتكاب جريمة كالقتل مثلاً، مقدّمة شروطها للتعامل مع مثل هذه الحالات، بناءً على مساواتها بين الديانات التوحيدية والذاتية أو أي منظومة أخرى.
لتنتقل للتأكيد على "عدالة الإعفاءات" في محاولة لطمأنة المتخوّفين من طلبات الإعفاء بحجة البروز الأخلاقي بما يزيد العبء على "الأكثرية" في المجتمع، ويفقد القوانين مضمونها الملزم.
ختاماً:
قدّمت سيسيل لابورد نموذجاً تفكيكياً لمفهوم الدين في النظرية السياسية الليبرالية، وصكّت مصطلحاتها وشرحتها باقتدار، ويبقى للقارئ العربي أن يناقش مضامين هذا الكتاب الذي بقدر ما فكّك مفهوم "الدين" في الليبرالية الغربية، فقد فكّك مفاهيم العلاقة بين الدين والدولة كذلك، فإنَّ القدرة على البناء على تجارب الآخرين من حيث انتهوا، "خير من إعادة اختراع العجلة".