"دفرسوار" في عفرين.. ما وراء الستار

02 مارس 2018
+ الخط -
الثغرة التي لم تغلقها تركيا حتى الآن على معبر الزيارة في جنوب عفرين، حيث تقع بلدتا نبل والزهراء الشيعيتان، التزاما بتفاهماتها مع روسيا  وإيران، ولكي لا تتهم بمحاصرة أكراد المدينة وتجويعهم، وتجد نفسها في مأزق "إنساني" مع المجتمع الدولي، ستكون دائما ورقة مناورة وضغط بيد طهران، وستتسبب، عاجلا أم آجلا، بتوتر وأزمة أكبر بين أنقرة  من جهة والنظام السوري وحلفائه المحليين والإقليميين، وفي مقدمتهم إيران، من جهة أخرى.
كانت العناوين العريضة لتفاهم إعلام النظام السوري والقنوات الإخبارية الإيرانية تركز، ظهر العشرين من الشهر الماضي، على تحرك طلائع القوات الشعبية للدفاع عن السيادة السورية في وجه المحتل التركي، وقدوم لحظة المقاومة الأسطورية، وتبرز صور قوات النظام والمليشيات يدا بيد، مع أنه لو كانت دمشق راغبة حقا في القتال ضد الجيش التركي لأرسلت دباباتها وجيشها النظامي وطائراتها تدافع عن "قوات سورية الديمقراطية" التي أعلنت من صوبها أن البندقية السورية توحدت في معركة عفرين، لكنها في الوقت نفسه تجاهلت أنها في مكانٍ آخر من سورية، تحتمي بالعلم الأميركي.
تركت قيادات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري جانبا كل خلافاتها مع النظام، وقرّرت التنسيق معه "دفاعا عن سيادة سورية في مواجهة قوات الاحتلال التركي". ولم يسألها النظام 
عن الذين تعاونوا مع القوات الأميركية، وسهلوا دخولها إلى شمال البلاد وشرقها، وتسببوا قبل أيام في دير الزور بمقتل عشرات من جنوده. لكن طهران خيبت آمال الطرفين، عندما أمرت بتحويل التجييش والتعبئة إلى حملةٍ إعلامية محدودة، والاكتفاء بإرسال مجموعات من المليشيات الشعبية المحسوبة عليها إلى ما وراء المعبر، في استعراض دعائي لإعلان ولادة التحالف الجديد في وجه المشروع التركي.
لا يكشف المشهد على معبر الزيارة عن مسرحية التقارب بين النظام السوري و"قوات سورية الديمقراطية" بقدر ما ييرز الاندفاعة الإيرانية لقول شيء ما. عرض الهواء الطلق الذي تابعناه جميعا قبل أيام من خلال النقل الحي لقنوات النظام في سورية والإعلام الإيراني أو المحسوب عليهما أمام معبر الزيارة (ثغرة دفرسوار جنوب عفرين) كان محاولة اختراق للنظام السوري بقرار إيراني، بهدف كسب قوات سورية الديمقراطية إلى جانبهما في الاصطفاف الجديد.
أمام المنفذ الوحيد لقوات سورية الديمقراطية وشريان حياتها مع الخارج، برز تحالف عجيب غريب، يوحد علم النظام وصور بشار الأسد جنبا الى جنب مع بوسترات زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، ووحدات كردية تعلن أنها تحتمي بدمشق، لكنها في مكان آخر هي تحت حماية العلم الأميركي، ومجموعات من المليشيات التي تمولها وتدربها إيران، وجميعها ترفع شعار "التصدي للغزاة الأتراك وإرهابيي الجيش السوري الحر" في عفرين. وفجأة يفسد تحليق الطيران التركي التحذيري رقصة النصر على المعبر، ويقطع الطريق على كل هذه الحماسة والتجييش والتعبئة للجالسين أمام الشاشات، وفي حضنهم صحن المكسرات.
خلطة بحص هي أن يبرّر فرات خليل، القائد العام لوحدات حماية الشعب في حلب، قرار الموافقة على دخول قوات النظام السوري أحياء حلب الشرقية، "بسبب صمت كل العالم حيال الهجمات التركية، والحاجة لإرسال وحدات حماية الشعب والمرأة إلى عفرين، لذلك وقعت الأماكن تحت سيطرة النظام السوري". وأن يطلب إلينا تجاهل الدعم الأميركي المقدم للوحدات الكردية في شرق الفرات، وهي تواجه قوات النظام وحلفائه الإيرانيين هناك.
لماذا اختار النظام إرسال ما سماها القوات الشعبية، أو القوات الرديفة، إلى عفرين، بدلا من الجيش النظامي السوري، طالما أن تحريك القوات في جنوب عفرين قرار سيادي سوري مشترك بين دمشق وقوات سورية الديمقراطية؟ ولماذا يرسل النظام القوات، على الرغم من فشله في إقناع القوات الكردية بإخلاء المكان لصالحه، أو التفاهم معها على الانسحاب لصالح ربط منطقة عفرين بخطة مناطق تخفيض التوتر؟
كانت الكارثة مع ما ردده الإعلام السوري الرسمي والإيراني حول أن هدف هذا التحرك هو توحيد البندقية السورية لمواجهة الاعتداءات التركية والأميركية على سورية. أما أن واشنطن لم ترصد ما قالته طهران ودمشق، بعد ظهر العشرين من فبراير/ شباط، أو أنها مقتنعة بأن حليفها الكردي لن يفرط بعلاقاته معها، حتى ولو كانت عفرين هي الثمن.
حتى ولو تغاضت واشنطن عن الحوار بين النظام السوري وقوات سورية الديمقراطية فهي لن تسمح بأن يتحول ذلك إلى تفاهم لحليفها الكردي مع طهران. كيف يمكن لواشنطن أن تقبل بتنسيق عسكري بين النظام وقوات سورية الديمقراطية برعاية إيرانية، وهي التي كانت قبل أيام توجه ضربة جوية عنيفة لهم، بسبب اقترابهم من مواقع الشريك الكردي في دير الزور؟
ثم هناك نقطة أخرى: هل ما جرى على معبر الزيارة كان بمعرفة الروس، وبقبولهم الضمني لتوجيه رسالة إلى أنقرة بعدم المبالغة في التمدد داخل جغرافيا عفرين، كما تقول دمشق وطهران؟ جاءت الإجابة عبر تجاهل القيادة الروسية كل رسائل الاصطفاف الثلاثي هناك، فموسكو أغضبها تصلب قوات سورية الديمقراطية بعدم الانسحاب من عفرين، وتسليم المواقع والسلاح للنظام، وتجاهل رسائل الطمأنة التركية بالاستعداد للتفاهم مع دمشق، في دخول القوات السورية النظامية عفرين، في إطار مباحثات أمنية حدودية يرعاها الكرملين بين أنقرة ودمشق. لكن الذي قد يكون أغضبها أكثر هو مسارعة طهران لجني ثمار فشل المبادرة الروسية هناك، من خلال الالتفاف عليها، وتحويلها إلى فرصةٍ تعيدها إلى قلب المشهد العفريني، وخطة التمدد الإيراني نحو إنجاز منفذها الاستراتيجي على المتوسط.
ألم تسمع طهران قول وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، إذا كان النظام يريد دخول عفرين، لتطهيرها من الإرهاب، فلا مشكلة، أما اذا كان الهدف هو الحفاظ عليهم هناك فلن يوقف أحد الجيش التركي؟ ربما سمعته، لكنها وجدت أن لا خيار آخر أمامها إذا ما كانت تريد البقاء أمام الطاولة.
تمسّك طهران بسياسة التوغل في المشهد السوري سياسيا وعسكريا سببه الخوف من تفاهمات تركية روسية، قد تلتحق بها واشنطن في آخر لحظة، وتربك خططها وحساباتها في سورية. كما أن ما يدفع طهران إلى التعامل بجدية مع احتمال بروز سيناريو من هذا النوع، ليس فقط شعورها بتراجع فرصها وحظوظها في التأثير بمسار الملف السوري، بعد قرار تل أبيب التدخل العسكري المباشر ضد الوجود الإيراني في سورية، بل إعلان القيادات الأميركية مراتٍ أن موعد توجيه الضربة لإيران يقترب يوما بعد آخر.
تتمسّك أنقرة بلعب ورقة التقريب بين البيت الأبيض والكرملين، لتخطي الأزمات الأكبر في سورية، لكنها تعرف أن ثمن ذلك سيكون حتما إغضاب طهران التي بدأت تشعر بالعزلة وتعمل على توجيه رسائل التحضير لمواجهة أكبر والإعلان أنها ستحارب بكل ما تملكه من وسائل لعرقلة أية تفاهمات من هذا النوع، حتى ولو كان الثمن مغامرة إشعال جبهتي جنوب لبنان والجولان وتوتير الأجواء في الخليج دفعة واحدة.
الخطة الأميركية بمواصلة الدعم المالي والعسكري واللوجستي لقوات سورية الديمقراطية قد 
تكون الدافع المحرك في عبور القوات التركية الحدود باتجاه عفرين، لكن التطورات السلبية المتلاحقة في المشهدين، الأمني والسياسي السوريين، تعكس حقيقة اقتراب موعد انفراط عقد تفاهم أستانة والدول الضامنة الثلاث، روسيا وتركيا وإيران، على حساب بروز تفاهم ثلاثي آخر يجمع أنقرة وموسكو وواشنطن هذه المرة.
وهناك عامل آخر يتعلق مباشرة بقرار التغيير في سياسة تركيا السورية الذي أفاد بشأنه نائب الرئيس التركي الأسبق، نعمان كورتولموش، بأن "السياسة التركية في سورية كانت خاطئة منذ البداية والآن نحاول تعديلها". وفشلت أنقرة في تحقيق ما تريد، بسبب تباعد مصالحها مع الحليف الأميركي في سورية، والعروض المغرية التي قدمتها لها موسكو، وتفاهماتها مع إيران في مسار الملف الكردي ببعده الإقليمي، لكنها تريد أيضا تجاوز أزمتها مع واشنطن، مهما كان الثمن هذه المرة، فهناك مواجهة منبج التي ستكون كارثة أكبر على سياستها السورية، وعلاقاتها متزايدة التوتر مع عواصم إقليمية ودولية كثيرة.
ويعرض وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، على أنقرة العمل معا لإلزام قوات سورية الديمقراطية بالقطيعة مع حزب العمال الكردستاني، فتبادره أنقرة بالدعوة إلى تطبيق سياسة الفصل بين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وقوات سورية الديمقراطية، وهذا يكفيها، باعتباره خطوة تشكل بداية جديدة لتخفيف التوتر بين البلدين، فتركيا تستعد لتغيير سياستها السورية، وتستعد واشنطن أيضا لفعل ذلك. تتزايد الأنباء بشأن احتمالات قيام البيت الأبيض بعملية تعديل جذري في صفوف فريق العمل الأميركي المشرف على الملف السوري، والذي يتولى التنسيق مع القيادات الكردية، استجابة للطلب التركي، وهو سيكون المقياس الأول لمؤشرات التحول في مسار العلاقات التركية الأميركية في سورية. وسيكون المقياس الآخر حتما متابعة الموقف الأميركي، على ضوء قرار مجلس الأمن الدولي، أخيرا، بإعلان الهدنة العامة في سورية. هل ستضغط أميركا لإلزام أنقرة بها في عفرين، أم أنها ستكرّر مواقفها أن هذه المنطقة هي خارج عمل القوات الأميركية وخططها في الحرب على "داعش"؟ تعرف إيران الإجابة أكثر من غيرها، وإلا لما كانت قد أشرفت على إنتاج عمل مسرحي استعراضي ضخم في الهواء الطلق أمام معبر الزيارة.
4A6988D0-57AB-4CAB-9A76-07167D860E54
سمير صالحة

كاتب وباحث تركي، أستاذ جامعي في لقانون الدولي العام والعلاقات الدولية، دكتوراة في العلوم السياسية من جامعة باريس، له عدة مؤلفات.