"دستورانية ما بعد انفجارات 2011": توترات الدولة والمواطن

14 يوليو 2017
(من غرافيتي في القاهرة)
+ الخط -
يدفعنا "الحِراك" الجاري في منطقة الريف شمال المغرب، إلى إعادة قراءة كتاب "دستورانية ما بعد انفجارات 2011"، بشكلٍ أكثر تأنياً. الكتاب وضعه أستاذ القانون الدستوري المغربي، حسن طارق، وقد صدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" نهاية العام الماضي.

في هذا التأليف قراءة شاملة ودقيقة، للعلاقات المنعقدة بين الدساتير العربية -التي صيغت مؤخراً بعد الانتفاضات والثورات العربية-، والأبنية الاجتماعية والسياسية لثلاث دولٍ شهدت هذه المتغيرات الجذرية، وإنْ بدرجاتٍ متفاوتة، ولكنها عبَّرت عنها جميعاً بتحويراتٍ تكاد تكون جذريةً في صياغة النص الدستوري، وأعادت من خلاله ترتيب الصلات الرمزية والواقعية بين السلطة السياسية وفئات المجتمع، مع تركيزٍ على المكانة التي ينبغي أن يحتلها البُعد الديني.

هكذا يقترح هذا الكتاب سلسلة من التحليلات الجديدة لخطاب الدستور بوصفه التعبير الرسمي الأسمى عن نمط العلاقة بين الحاكم والمحكومين، ولا سيما في فترة اهتزاز الهوية وبحث المجتمع عن قاعدة صلبة للاحتماء، تجاوزاً للأزمة وسعياً وراء استقرار جديد.

إنَّ قيمة الكتاب الخاصة تتأتى من كونه حُرِّر من خلال الجمع المتزن بين منظورين متكامليْن: البحث القانوني والعمل الحزبي، فوردت تحاليل طارق حسن ونتائجُه محكومةً بانتماءٍ علمي- بحثي، عالج من خلاله سائر تجليات التوتر بين القانون والمجتمع والهوية. وبانتمائه الحزبي المعارض، سعى إلى "الإصلاح" ووضعنة القيمة القانونية عبر المناداة بمزيد من التشارك في ممارسة السلطة وجَسر الهوة بين المجتمع والدولة والدين.

وبالاستناد إلى تخطيط متوازن، قام هذا الباحث، في القسم الأول من كتابه، بدراسة مظاهر التوتر بين الدولة والمواطن من خلال دستور 2011 الجديد، الذي سعى من خلاله المشترعون إلى إصلاح تلك العلاقة، ونقلها من دائرة التقديس إلى الرؤية التشاركية الوضعية، حيث يغدو المواطن في مركز الإصلاحات بل قطبها، والدستور في خدمته، لا في خدمة المؤسسات.

وفي القسم الثاني، حلل الأكاديمي المغربي التوترات الهيكلية التي حكمت الدستور المغربي، ولا سيما ازدواجية الخطاب بين الانتماء إلى المَلَكية، وهي منظومة رمزية، ذات أصول دينية، وبين الانتماء إلى جمهوريةٍ تتبع نظاماً رئاسياً. والمسافة الفاصلة بين هذين المجالين واسعة، لا تقتصر فقط على طبيعة السلطة ومصدرها (الإلهي الغيبي في مقابل البشري الوضعي)، وإنما في طريقة تنظيم المجتمع وتوزيع السلطات الثلاث فيه، وطريقة التداول عليها من خلال نظام مُمَؤسَس لا يرتبط بالأشخاص ولا بالرموز.

ولإجراء مقارنات، يخصّص طارق القسم الثالث من مباحثه إلى "دستورانية" ما بعد الثورات في كلٍّ من تونس ومصر، وفيه يحلل قضايا الهوية وما يعيشه البَلدَان من توتراتٍ هيكلية بين الوطن في معناه المدني الحديث، والأمة بمعناها الديني التقليدي، وتراوح قيم المواطنة بين هذين التصوّريْن المتناقضيْن للسلطة والفرد.

وإذا ما تركنا جانباً قيمة الكتاب التحليلية من وجهة النظر الدستورية، ونظرته السوسيولوجية المتوازنة للمتغيرات الأخيرة في العالم العربي، فإنه يتضمن وجوهاً مفيدة أخرى، جديرة بالتوقف عندها. وسنركز هنا على البعد المعجمي لهذه الإشكالية، بما أنَّ الكتاب بأكمله نظر وتحقيق في شعبة القانون الدستوري، وهو مجال اصطلاحي، يكاد يكون مستحدثاً بالكلية في اللغة العربية، مما أدّى إلى تحريك آليات التوليد فيها، بشكل حيوي، لنقل المفاهيم السياسية الحديثة التي يتشكل منها هذا الفرع من فروع القانون المدني.

وقد تصدم القارئَ فكرةُ جِدَّة هذا الحقل الدلالي القانوني، ولكنها تُؤيد بوقائع ثابتة مفادها أنَّ المفردات السياسية العربية، التي عمرت المشهد السياسي لقرونٍ خلت، تحيل على وظائف ومقولاتٍ تنتمي جلها إلى مرحلة ما قبل تشكل الدولة-الأمة، التي لا تخضع لأيِّ بعدٍ غيبي. إذ الدستور- ولْيكن نصب أعيننا أنَّ هذا المصطلح المركزي مقترض من اللغة الفارسية للدلالة على القاعدة المطردة - هو ضبط لنظام الحُكم السياسي وفق قواعد توافقية، لا هدف من ورائها سوى مصلحة الفرد-المواطن، الذي لا تتحدد هويته لا بانتماء ديني، ولا عرقي، وإنما بالولاء إلى دولة المؤسسات. ولا يكاد هذا المعنى الدقيق يَحضر في التصوّر التقليدي للسياسة، الذي هيمنت عليه نظرية الخلافة، طيلة الثلاثة عشر قرناً الماضية.

وللتعبير عن عمق هذا التحوّل من نظامٍ إلى نظام، كان لزاماً على لغة الضاد، في بدايات القرن التاسع عشر إبانَ اكتشاف الأنظمة الجمهورية، أن تتخفّف من لوائح مفرداتٍ مشبعة بالأبعاد الدينية، وأن تتحرّر من ثقل رمزيتها الأخلاقية والقبلية، حتى تواكب ما توصَّلت إليه الـ "بركسيس" السياسية الغربية. وفي أحضانها نشأ مفهوم "الدستور" كوثيقة توافقية وضعية، قابلة للتعديل، بحسب ما استقر في التاريخ المعاصر من آليات الحكم الديمقراطي، والسلطةُ فيه للشعب وحده.

ومن جهة ثانية، بني هذا الكتاب على اهتمامٍ حقيقي بالجوانب اللغوية الدلالية التي تدخلت، وفي أغلب الأحيان بشكلٍ لا واعٍ، في صياغة مواد الدستور، وأثارت جدلاً واسعا حوله وحول بنوده، فقد رصد الباحث، في دساتير ما بعد 2011، غياب مفردات تحيل على اللغة الاجتماعية والأخلاقية في بعضها، وإحالتها، في بعضها الآخر، على القيم القومية أو الدينية.

وأجاد في استعراضه للنقاشات المعقدة، التي جرت في البلدان الثلاثة، حول الصياغة اللفظية للدساتير، وللقيود المفهومية والمتخيلة التي تَسرَّبت في عملية الصياغة، من خلال الوقوف على الدلالات التي تسند، جماعياً، للكلمات وما تضيفه المخيلة إليها من معانٍ ثوانٍ، مثلما حصل مع مفردات: شريعة، شعب، حرية، علمانية، هوية، ملكية، مقدس...

ويمكننا، اليوم مزج ما ورد من الإشارات في كتاب طارق مع أعمال رجل القانون الفرنسي جرار كورني (1926-2007)، واستحداث ألسنية قانونية تنصب على المواد الدستورية، ويكون موضوعها دراسة التحولات التي تطاول الدلالات المعجمية للمفاهيم المركزية في الدستور، وما يحيط به من الخطابات، مثل مُداولات النواب التي تركزت على معاني المصطلحات، وسنكتشف، وفقاً لتحليلات لودفيغ فتغنشتاين المنطقية (1889-1951)، أنَّ جلَّ النقاشات ناتج من سوء فهم، مقصودٍ أم لا، للعبارات. وبالإضافة إلى ذلك، تقدم نماذج الدستور في المغرب وتونس ومصر حقولاً خصبة لهذا التوتر بين اللغة والتاريخ.

وما يحصل في منطقة الريف اليوم شمال المغرب، أو ما حصل مؤخراً من احتجاجات في تطاوين جنوب تونس، أو تواصل الاحتقان في مصر، شواهد على ذلك، وليس بإمكان أحد أن يقصر هذه التوترات وما حملته من مطالب شعبية وسياسية ضمن سجلات القول وتحوّلات المعجم فحسب، فهي أوسع وأعمق. ولكنْ من بين وظائف الألسنية فضح عمليات التلاعب التي تستخدم اللغة، وتستدعي الذاكرة للوصول إلى مآرب سياسية، بعضها رخيص.

ولعل اختيار طارق لمصطلح "دستورانية" في العنوان عوضاً عن "دستورية"، إشارة واضحة إلى مدى الزيف الحاصل في استخدام الدستور لفرض إملاءات حزبية أو أيديولوجية، ما تزال تبعد المواطنَ-الإنسانَ عن العملية السياسية، وتقصيه عن مساراتها التي يفترض أن تكون قانونية.

المساهمون