"داعش".. بين الخطر والتوظيف
مهما اختلفنا مع "تنظيم الدولة"، أو شابَ نظرتَنا إليه الغموض، فإن تمدَّده المكاني، على الرغم من تضافر قوى دولية وإقليمية عليه، وقدرته على الاستقطاب التي لا تقتصر على أبناء المنطقة من العرب، ولا على المسلمين في الغرب وغيره، بل تتعداهم إلى معتنقي الإسلام من الغربيين أنفسهم، ولا سيما في جيل الشباب، هذه الملامح تسترعي النظر.
مع أنه قد يُشكَّك في دلالة هذه الملامح على قدرات التنظيم الذاتية، فيقال إن دولاً ترعاه وتسانده، تارة هي أميركا، وتارة إيران، وتارة تركيا، وأخرى السعودية، مع ما في هذه الاحتمالات من تناقضٍ لافت، إلا أنه، أولاً، لم تنهض أدلةٌ كافية على هذه التبعيَّة، أو التوظيف. وثانياً إن كانت "داعش" بالفعل صنيعةَ دولة من السابقات، أو أكثر، فإن المنضوين فيه تبدو عليهم، بحسب قصص صحافية ووقائع قتالية، شدةُ الإخلاص لعقيدتهم، والاستهانة بالموت. وهذا، بالطبع، يشير إلى توظيف الطاقة الروحية الإيمانية التي لا تُضاهى في نظر المصدِّقين بها.
وثالثاً، فإنه على فرَض تبعية هذا التنظيم وتوظيفه دولياً وإقليمياً، فإن التركيبة التي ابُتني عليها، من حيث الصفة الإسلامية مرجعيةً، والجهاد آليةً، والأُمميَّة نطاقاً، يشي لدى من ركّبه، فرضاً، بمقاربة أكثر ملاءمة للتحولات الفكرية والسياسية التي يحضر فيها الإسلام السياسي طرفاً فاعلاً، ولا يمكن تجاهله.
مؤكَّد أن مفهوم "الأمة الإسلامية" لم يتلاشَ تماماً في أذهان المسلمين، وحتى في غيرهم من أهل هذه المنطقة التي حُكمت بالإسلام، شريعةً وحضارةً، قروناً، ولهذه الصفة الأُممية الإسلامية مفاعيلُها السياسية لدى من يستشعرونها، وهم نسبةٌ ملحوظة من عموم المسلمين. يغذِّيها ما يراه المسلمون من اعتداءاتٍ على إخوانهم في غيرِ منطقة من العالم، ويغذِّيها ما يستفز مشاعرهم من اعتداءٍ على مقدسات رمزية لهم، لم تتحاشَ الرسولَ الكريم محمداً، ولم ينجُ منها القرآن الكريم نفسُه، وأما المسجد الأقصى المحتل فلا يَمنع تهويدَه وتدنيسَه المتكاثر أيُّ كيانٍ سياسي عربي أو إسلامي.
وهنا نعرِّج قليلا إلى فلسطين، وما تمثله إسرائيل في العقل الجمعي الإسلامي من مشروع غربي، بدأتْه بريطانيا، وتابعتْه الدول الغربية، والراعي الأكبر له اليوم أميركا، ففلسطين التي تتآكل على نحو متسارع، لا نصير لها يكافئ تلك المساندة الغربية، وهنا، لا يقتصر العداء على إسرائيل، بل يرتدُّ إلى الدول الغربية وأميركا، وآخرُ تصريحات وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، تؤكد على "وجوب" استئناف مفاوضات السلام الإسرائيلية – الفلسطينية؛ لكونها عنصراً أساسياً في مكافحة التطرف، وخصوصاً تنظيم "داعش".
هذا على المستوى الأممي، وهو حاضر في "تنظيم الدولة"، وإن كان يتقدمه في المشهد البعدُ الطائفي، ولعل أكبر دعاوى "التنظيم" استخداماً أنه الذي يحمي السنة من "الروافض"، ولا سيما في العراق، حيث الأسبقية الزمنية، ثم في سورية ولبنان، وغيرها.
و"داعش" لا يعدَم أحداثاً مساعدة، توفر رغباتٍ ثأريةً وجودية. هنا، نستذكر آخر تقرير لمنظمة العفو الدولية، اتَّهم مليشياتٍ عراقيةً شيعية بخطف عشرات المدنيين السُّنة وقتلهم في الأشهر القليلة الماضية، وأن هذه المليشيات مدعومةٌ من الحكومة العراقية التي تمدُّها بالسلاح وتتمتع بالحصانة.
فيُخشى أن يصبح "داعش" رأس الحربة في دفاع السنة عن أرواحهم ووجودهم، في وجه التغلب الشيعي، في العراق، وفي سورية، حيث نظام الأسد المدعوم من إيران والحكومة العراقية وحزب الله، هذا الدعم الذي يكبت المطالبات السورية، بتغيير سياسي أكثر توازناً. وفي اليمن، حيث تنشط "القاعدة" أخيراً (وهي ليست بعيدة جوهرياً عن "داعش") لمواجهة التمدد الحوثي، أو محاولات استحواذه على الدولة والبلاد.
فـ"داعش" قد يتراءى، الآن، ندّاً للخطر الغربي الخارجي الذي يضرب في أماكن عدة من العالم الإسلامي، كما في فلسطين وأفغانستان وإفريقيا وغيرها، وخصماً عنيداً للخطر الطائفي المستخدِم للشيعة، وهنا، قد يغيب، أو يخفُّ، تأثير التفاصيل العقدية والفقهية، ولا تعود عائقاً عن الانضمام إلى "داعش" التي تصبح حينها العنوانَ والملاذ والفاعلية الحامية للمسلمين، أو للسنة، والمنتصرة لهم.
هذا من جهة الجاذبية والخطر، وأما من جهة التوظيف، فإن واشنطن تعلن أن حرباً طويلة الأمد تنتظرها في الإقليم لمحاربة "داعش"، وذلك للبقاء في حالة اشتباكٍ فعلي، وعن كثب لتعالج التطورات، وتحفظ مصالحها النفطية والاستراتيجية، ولتحمي إسرائيل في ظل ضعف الدولة المركزية، كما في سورية والعراق ولبنان، وغيرها.
وهذا الانخراط الأميركي المباشر في المنطقة العربية، وفي قلب الصراع والتحولات، يزيد من الشكوك بصحة ما كان قد تُدوول وفقاً لوثيقة استراتيجية أميركية صدرت في يناير/كانون الثاني 2012 من أن واشنطن ستخفف من انخراطها في الشرق الأوسط لتتجه شرقاً نحو آسيا والباسيفيكي، أو أن إدارة أوباما عدّلت من تلك التوجهات، إن قُررت.
صحيحٌ أن إنتاج أميركا من النفط زاد بنسبة ملحوظة، حيث يُتوقع أن تعلنها وكالة الطاقة الدولية أكبرَ منتج للنفط، متفوقةً على السعودية، إلا أن البقاء الأميركي في المنطقة ليس ناجماً عن حاجتها إلى النفط والطاقة فقط، مع أن هذا الاحتياج قد لا يتوقف؛ نظراً لرخص أسعار النفط فيها، بالمقارنة مع كلفة إنتاجه في أميركا، فبعد الانخفاض في أسعاره، ستعمل واشنطن، بحسب خبراء، على ألا يقل سعر النفط عن 75 دولاراً، وهو سعر تكلفة إنتاج الزيت الصخري لديها، وإذا هوت الأسعار عن هذا الرقم، فستتكبد واشنطن خسائر فادحة.
ولكن، ثمة مصالح استراتيجية تتعلق بدورها العالمي؛ فما دام أن السياسة الأميركية لم تجنح إلى العزلة؛ فإن منطقة الشرق الأوسط، لما تنطوي عليه من عناصر قوة جيوسياسية لا غنى عنها، كما أكد بريجنسكي في كتابه "لعبة الشطرنج"، "أنَّ المهمة التي تواجه الولايات المتحدة هي إدارة النزاعات والعلاقات في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، على نحوٍ لا تصعد معه أية دولة عظمى منافسة لتهدِّد المصالح الأميركية، أو حالة الرفاه السائد في أميركا". ونستذكر أن أوباما من المتأثرين بالمدرسة التي ينتمي إليها بريجينسكي، وهي الواقعية، فلا يمكن لأي قوة عالميةٍ، فضلاً عن الدولة العظمى، أن تتجاهل هذه المنطقة العربية، ويستبعد أن تفرغ عقول ساستها من استراتيجية كليَّةٍ، تراعي التطورات في القوى المحلية والإقليمية.
وإذا أخذنا بالاعتبار التراجع الأميركي بعد حربي أفغانستان والعراق، والرغبة في تقليص النفقات، ولا سيما العسكرية، فإن المتوقع ليس الحرب الشاملة، ولكن إدارة الأزمات، وضرب القوى ببعضها، بحيث لا يحسم فريق قوي المعركة، إلا أن يكون مأمون التحالف معها، وأن تستعين أميركا بدول عالمية وأخرى إقليمية، لدرء خطر "داعش" العام، ولتركيز نفوذها الخاص، من خلال هذا الحضور المباشر.