في التاسعة والتسعين من عمره، يحظى المفكّر الفرنسي إدغار موران (1921)، بما لم يحظ به في سنوات حياته الطويلة، حتى تلك التي كان يُصدر فيها أهمّ أعماله ضمن سلسلته الموسوعية: "الطريقة"، من 1977 إلى 2004. لقد دفع الشعور بالمصير المجهول للعالم - وهو شعور بات منتشراً بقوة مع جائحة كورونا - إلى تركيز خاص على مدوّنة موران، وأبرزها تنظيراته حول الأزمات والتي نجدُها مجمّعة في كتاب بعنوان "حول الأزمة" (منشورات فلاماريون)، هو واحد من ثلاثة كتب صدرت بتوقيع موران هذا العام.
تجدر الإشارة هنا إلى أن العمل ليس تأليفياً بالمعنى الدقيق للكلمة. لم يجلس موران ليكتب عن كوفيد-19. لكن الفيروس استدعى الكثير من أفكاره التي توزّعت على مؤلفاته، وقد جمعها الباحث فرنسوا ليفونيه وأضاف إليها حواراً مع موران، يشير الكتاب إلى أنه أنجز في 2016، وهو ما يعني أن فكرة العمل جاهزة، وأن استدعاء أفكار موران له ما يبرّره بغض النظر عن "الأزمة" التي سبّبها الوباء، فلا يعدو دور كورونا إلا أن يكون عاملاً تحفيزياً لنشر العمل في وقت يتحدّث فيه الجميع عن الأزمات.
الركيزة الأساسية للعمل مقال نشره موران في 1976 بعنوان "من أجل علم للأزمات"، وهو مقال يبدو كأنه كتب منذ أيام، وإن كنّا نفهم أن دعوته قد ذهبت أدراج الرياح فلم يستأنفها مفكّرون آخرون، وظل موران نفسه يردّدها بشكل غير منتظم في مناسبات كثيرة ضمن مؤلفاته أو محاضراته. وحدها الأزمات كانت تحيي هذا النص.
تساهم الأزمات في التحفيز على رعاية المعرفة وتطويرها
لكن كتاب "حول الأزمة"، يُظهر أن موران لم يبدأ التفكير في مسألة الأزمة مع مقاله الشهير، بل يقدّم نصوصاً أقدم له تتناول الأزمة كمفهوم وكحدث، مثلما يشير ليفونيه في كلمة مقتضبة يجعل منها مدخلاً لأفكار موران، فيُحيل القارئ إلى كتب مثل "الإنسان والموت" (1951)، و"البراديغم الضائع" (1973).
وعلى مستوى آخر تتيح صيغة الحوار أن نفهم كيف بدأ موران التفكير في الأزمة كموضوع فكري. وفي هذا السياق يكشف أن التناقض بين معنى الكلمة الأم Krisis باللغة اليونانية القديمة مقابل المعنى الذي نتداوله اليوم هو القادح الذهني الذي دفعه للبحث في تاريخ المفهوم، فقد كانت الأزمة تعني لدى الإغريق لحظة مفصلية يمكن للطبيب أن يحكم على مرض، غير أن المعنى الحديث للكلمة قد مسخ المدلول القديم بل وذهب به إلى النقيض، فالأزمة تعني مرحلة من عدم القدرة على الحكم.
في سياق الحوار أيضاً نتعرّف إلى رؤية حضارية موسّعة لدى موران لم تظهر في أعماله المنشورة، فهو ينقد علاقة الغرب بالعالم من خلال مفهوم الأزمة حين يقول إن "الغرب يقدّم لبقية شعوب العالم حلولاً هي مشاكل عنده"، ومن خلال هذه الملاحظة يرى موران أن مفهوم الأزمة قد تعرّض للتضخيم، فالأزمات في الغرب ليست بالضرورة أزمات كل العالم لكن الاستعمال هو الذي يفرضها كذلك.
بشكل عام، يمكن أن نخرج مع موران بتصوّر إيجابي للأزمات. فكرته الرئيسية هي أن الأزمة بالضرورة مركّبة وبالتالي تحتاج معرفة مركّبة لفهمها، فلا معنى لحلّ يقدّمه خبراء الاقتصاد حتى لو كانت الأزمة اقتصادية، لأن امتزاجها بالواقع تنتج عنه أبعاد أخرى سياسية ومعرفية ونفسية وغيرها. هذا الوضع يعني أن الأزمات هي ما يساهم في التحفيز على رعاية المعرفة وتطويرها وتخصيبها بعضها من بعض.
وبشكل أوضح، يشير موران في مقاله "الحيوان الأزموي" L'animal crisique، إلى علاقة عضوية بين الإنسان والأزمة، حيث إنها رفيق تطوّره التاريخيّ. وهنا يرى موران أن الأزمة ضرورة للمجتمعات، فهي تفتح على إمكانيات إنتاج الحلول وابتكارها، غير أنه ينبّه إلى أن حلول الأزمات قد تكون وهمية وبالتالي تلقي بالمجتمعات في متاهات أكثر تعقيداً من الوضعيات الأصلية.
في الثقافة العربية، لعلّنا اليوم في حاجة إلى مثل هذا التفكير في الأزمات كموضوع تأمّل مستقلّ عن غابة الأزمات التي تعبرها مجتمعاتنا، فإلى جانب الركض وراء الحلول - كما يفعل الجميع - لا بدّ من نديّة موسوعية ينادي بها موران كي نتصدّى لما يقترحه علينا الواقع من إشكاليات، فالأزمة - كل أزمة - هي بالضرورة شبكة من الأزمات تلامس معظم ميادين المعرفة، وبالتالي يستدعي التصدّي لها الإلمام بطيف معارف واسع من علوم الطبيعة إلى علوم الإنسان. وقبل كل ذلك علينا أن نضع في اعتبارنا ملاحظة لموران مفادها أن "مفهوم الأزمة في أزمة"، حتى لا يكون التفكير في الأزمات ثقباً أسود يبتلع الأجيال تلو الأجيال.