تظلّ القراءة العربية لسؤال العنف وعلاقته بالدين أسيرةً للرؤية الاستشراقية الغربية، التي تُحمّل "الأديان" مسؤولية الحروب الكبرى في التاريخ، باعتبار الدين قوة غير عقلانية تربي العدوانية والتعصب. وهي رؤية تتجاهل أسباباً موضوعية أخرى لنشوء ظاهرة العنف الأصولي، مختصرة أسبابَه في تشوهٍ ثقافيّ كامنٍ في النّص والتراث الديني.
في كتاب "حقول الدم" تحاول "كارين آرمسترونغ"، وهي الراهبة السابقة والكاتبة المتخصصة في تاريخ الأديان؛ أن تقاوم تلك الرؤية النمطية عبر دراسة طبيعة العنف المتأصل في الدولة. إذ إنه لا وجود للدولة الحديثة من دون استخدام للقوة؛ لكنّ الدولة العلمانية وجدت في "الدين" شمّاعة تعلّق عليها عنفها، وكبش فداء ضعيفاً تحمّله مسؤولية العنف الذي ترتكبه هي.
تحاول الكاتبة الإجابة عن سؤالين مهمين؛ أولهما: ما الأسباب التي أدت إلى نشأة الحروب والعنف الإنساني عموماً؟ والثاني: كيف وصلت العقول إلى تفسيرها بأن الدين هو السبب الرئيسي فى تلك الصراعات؟
القسم الأول من الكتاب "البدايات" عالج مآلات العنف وعلاقته بالدين في أطوار حضارية متقدمة في بلاد الرافدين والهند والصين، كما تعرضت للاضطهاد التاريخي لبني إسرائيل فيما أسمته "المعضلة العبرانية". بينما رصدت في القسم الثاني "الحفاظ على السلام" بدايات المسيحية وعلاقتها المتوترة بالسلطة، ثم مرحلة الامبراطورية المسيحية التي نشأت مع اعتناق الإمبراطور الروماني قسطنطين للمسيحية، ثم تعرضت للدين الإسلامي وطبيعة الفتوحات الدينية، قبل أن تحلل مسألة الحروب الصليبية.
في حين كان القسم الثالث "الحداثة" مهموماً بحركة الدين في الغرب منذ تقويض سلطة المسلمين في الأندلس، وظهور الدولة العثمانية، والحروب الدينية في أوروبا، ثم ملابسات هجرات الآباء الحجاج إلى العالم الجديد ومآلات ذلك. قبل أن تدون المؤلفة رؤيتها لما سمته "الإرهاب المقدس" ثم "الجهاد العالمي".
العبارة الرائجة
في الأوساط الغربية المعاصرة عبارة رائجة تقول: إن الدين كان هو السبب في جميع الحروب الكبرى في التاريخ. كيف لا؟! وكلا طرفي النزاع يرى "الله" في صفه هو وحده.
وهي عبارة تستنكرها كارين آرمسترونغ، فهي -على الأقل- تناقض حقيقة أن الحربين العالميتين لم تقوما بسبب ديني. كما أنّ المؤرخين الحربيين، عندما يناقشون الأسباب التي تدفع البشر إلى الحروب، يذهبون إلى أن عدداً كبيراً من العوامل الاجتماعية المترابطة، والعوامل المادية والأيديولوجية؛ كلها تشترك في دفع البشر نحو الحروب.
حتى أولئك الذين يسلّمون بأن الدين لم يكن مسؤولا عن كل العنف والحروب التي قام بها الجنس البشري؛ فإنهم ما زالوا يرون أن الدين يتصف بطبيعته بنوع من العدائية الأصلية والمتجذرة للآخر، وهم يدّعون بأن التوحيد خاصة غير متسامح، وأن الذين يعتقدون بأن الله يقف في صفهم؛ يستحيل معهم الوصول إلى تسوية أو إلى حلّ وسط. ويستشهدون على ذلك بالحروب الصليبية، ومحاكم التفتيش، والحروب الدينية في القرنين السادس عشر والسابع عشر. ثم يشيرون -وهو الأهم- إلى الإرهاب المعاصر لإثبات أن الإسلام دين عدواني بطبعه.
غموض المفهوم
تذكر المؤلفة أنها حين تقاوم ذلك التصور بأن تشير إلى أن البوذية -مثلاً- دين غير عنيف؛ فإن معارضي رؤيتها يردون بأن البوذية فلسفة علمانية وليست ديناً. وهذا المفهوم عن البوذية راسخ منذ القرن السابع عشر. وهنا نصل إلى لب المشكلة وهو أن المفهوم الغربي الحديث للدين مفهوم متحيز ومثير للعجب، فليس ثمة تقاليد ثقافية لديها مفهوم مشابه للمفهوم الغربي الحديث عن الدين، بل إن أوروبا المسيحية ما قبل الحديثة سترى هذا المفهوم للدين مختزلاً وغريباً. ومن الجدير بالذكر أن خلال الخمسين سنة الماضية أصبح واضحاً لدى المؤسسات الأكاديمية غياب أي طريقة عامة وكونية متفق عليها لتعريف الدين. وهذا مما يُعَقّد ويصعب أي محاولة للجزم بأن هناك نزوعاً طبيعياً للدين نحو العنف.
اقــرأ أيضاً
ومن خلال عشرات الأمثلة التي سردها الكتاب؛ أثبتت الكاتبة أن الدين مثل "الطّقس" يمكن أن يفعل أشياء عديدة مختلفة، وأكدت الادعاء بأن الدين والممارسات نفسها قد ألهمت مسارات عمل متعارضة تماماً. من النماذج الإسلامية التي عرضتها أنّ ابن تيمية وجلال الدين الرومي كانا كلاهما ضحايا الغزو المغولي، ولكنهما استعملا تعاليم الإسلام ذاتها للوصول إلى نتائج مختلفة تماماً. ولقرون عديدة ألهم الموت المأساوي للإمام الحسين الشيعة للانسحاب من الحياة السياسية في معارضة مبدئية للظلم المنظم؛ ولكنه حديثاً ألهمهم للقيام بفعل سياسي مقاوم.
ومن الخطأ القول الحاسم بأن الدين عدواني دائماً، ففي بعض الأحيان قام الدين بكبح جماح العنف، وإذا كانت مثل هذه النجاحات نادرة، باعتراف المؤلفة، فإن ذلك يعود إلى العنف والسلطوية المتأصلة في طبيعة الدولة الحديثة التي نعيش فيها.
توريط الدين
ترى وجهة النظر العلمانية أن الدين كان ظاهراً بقوة في معظم أعمال العنف تاريخياً، ولا تمانع آرمسترونغ في ذلك، لكنها ترى أن السياسة هي التي ورطت الدين في العنف، فقد ادعت كل إمبراطورية ناجحة بأنها تحمل مهمة دينية، وبأن أعداءها أشرار، ضالّون طغاة. ولأن تلك الدول والإمبراطوريات كانت قد نشأت بالقوة؛ فإن الدين كان متورطاً في عنفها.
تقول: "ولأن تقديسَ أنشطتنا السياسية أمرٌ متأصل ومغروس في دوافعنا، فإن الثوار الفرنسيين ما إن نجحوا في تهميش الكنيسة الكاثوليكية حتى خلقوا ديناً قومياً جديداً. وفي الولايات المتحدة، أول الجمهوريات العلمانية، كانت الدولة محاطة دوماً بهالةٍ دينية، عن قَدَرٍ واضحٍ ومهمةٍ مؤيَّدةٍ من الله".
وقبل أن تنشأ الدولة القومية كان البشر يفكرون بالسياسة بطريقة دينية، وقد فرض الأباطرة المسيحيون، منذ قسطنطين، السلام المسيحي بالعدوانية نفسها التي فرض بها أسلافهم الوثنيون السلامَ الرومانيّ. وإذا كانت الحماسة الدينية ألهمت الحملات الصليبية؛ فإنها كانت سياسية في عمقها. كما كانت محاكم التفتيش محاولة بغيضة لتأمين النظام الداخلي في إسبانيا بعد الانقسامات التي تلت الحرب الأهلية. وكانت الحروب الدينية وحرب الأعوام الثلاثين مثارة بسبب النزعات الطائفية حول حركة الإصلاح، ولكنها في حقيقتها أيضاً كانت مخاضَ ولادة الدولة القومية الحديثة.
اقــرأ أيضاً
تبرر المؤلفة كل تلك الأحداث التي تداخل فيها العنف السياسي مع الدين بقولها: "حين نقاتل، فإننا نحتاج إلى مسافة تفصلنا عن أعدائنا، ولأن الدين كان أمراً مركزياً للدولة؛ فإن شعاره وأساطيره صوّرت الأعداء كوحوش شريرة تهدد النظام الكوني والنظام السياسي".
وبتسليط الذاكرة على القرون الوسطى سنستعيد كيف دان المسيحيون اليهودَ باعتبارهم قتلة الأطفال، والمسلمين باعتبارهم عرقاً شريراً ودنيئاً، والكاثاريين بأنهم سرطان يتنامى في جسد المسيحية. وإذا كانت تلك الكراهية تتحلى بقناعٍ ديني؛ فإنها مع غيرها من قضايا العنف الطائفي، كانت بلا شك استجابة للأزمات الاجتماعية التي رافقت مرحلة التحديث المبكرة، إضافة إلى بعض الطموحات السياسية.
الإسلام والعنف
كان أهم أهداف الكتاب، وفقاً للمؤلفة، هو مقاومة الرؤية المشوهة عن الإسلام، والتي سادت الغرب منذ القرن العشرين. وهي تكشف عن أن الدين في العالم ما قبل الحديث كان يتخلل جميع شؤون الحياة الإنسانية؛ لذا فمن الحتمي أن يكون لبناء الدول وخوض الحروب أبعاد دينية ظاهرة. ولم يكن الإسلام في هذه الناحية مختلفاً عن المسيحية أو عن الهندوسية والتقاليد الصينية. ومن المعروف أن جميع الأديان، بما في ذلك الإسلام، قد حثّت أتباعها على العدل والرحمة، ولكن بسبب طبيعة الدولة العدوانية كان على الأديان أن تكافح في سبيل تطبيق هذه القيم في ظل الظروف المأساوية والفاسدة للحضارة الإنسانية.
وتزعم آرمسترونغ أنها تفاجئ القارئ الغربي بحقيقة أن المسلمين في بداية الحروب الصليبية كانوا أكثر تسامحاً مع خصومهم من الصليبيين. فإذا كان الغزاة القادمون من أوروبا قد احتلوا القدس، وقتلوا سكانها، فإن الأمر احتاج خمسين سنة قبل أن يقوم المسلمون برد عسكري حقيقي على الصليبيين. وهي تفسر ذلك بأن روح الجهاد كانت آخذة في الخفوت لولا أن الهجمات المتتابعة القادمة من الغرب قد أعادت النشاط إلى هذه الروح.
أيضاً أفردت المؤلفة فصلاً مخصصاً عن "الجهاد" الذي بدأ منذ ثمانينيات القرن الماضي وأسبابه وملابساته ومآلاته. إضافة إلى مقارنتها الدائمة في طول الكتاب. وكان مما تعرضت له المؤلفة تفسير قضايا التكفير والردة، حين ذهبت إلى أن المسلمين كانوا في الماضي يأنفون من الحكم على أبناء جلدتهم بالردة، لأنهم كانوا يعتقدون بأن الله وحده يعلم ما في الصدور، ولكنّ ممارسةَ التكفير، التي أصبحت شائعة الآن، تعود إلى أن المسلمين أصبحوا خائفين من العدو الخارجي. وتضيف آرمسترونغ: عندما يهاجم المسلمون الكنائس أو المعابد اليهودية اليوم فإنهم ليسوا مدفوعين إلى ذلك بالتعاليم الإسلامية. فالقرآن يأمر باحترام أهل الكتاب، وهي تفسر ذلك بأنه يعود في المقام الأول للإمبريالية الغربية المرتبطة بالمسيحية. معترفة بأن التاريخ الغربي متورط ومشتبك بما يُطلق عليه "مشكلة الشرق الأوسط" أو "المشكلة الفلسطينيية"، فقد أسهموا بقوة في خلقها. وما يحدث من تدافع إلى أوروبا ما هو إلا رد فعل طبيعي لجرائم الغرب الاستعمارية القديمة.
ترى آرمسترونغ أننا نعيش اليوم في عالم مترابط، وبالتالي فنحن متورطون ومسؤولون عن مآسي الآخرين والآخرون مسؤولون عن مآسينا. والإرهاب الذي نستنكره، هو في جزء منه نتيجة للسلوك الغربي، كما أن الغربيين ليسوا وحدهم الضحايا. وقد سردت نماذج من حوادث الإرهاب التي راح ضحيتها أعداد كبيرة من المسلمين الذين تتجاهلهم التغطية الإعلامية في مقابل تسليط الضوء الكبير جدا على أي حادث إرهابي في الغرب مثل "شارلي إبدو".
والخلاصة أن المؤلفة تعمدت بشكل مركز ومقصود نقد الرؤية العلمانية الاختزالية للعلاقة بين الدين والعنف، حيث قدمت رؤية تاريخية أكثر عمقاً لتفهم طبيعة العنف والدوافع التي تقف وراءه، وقد خلصت إلى أنه لا مفر من الحرب، فالحضارة لم تنشأ ولم تستمر من دون العنف والإكراه، وإن كان سؤالها الموضوعي: كيف نحافظ على هذا العنف الحتمي في حدوده الدنيا؟!
(كاتب مصري)
اقــرأ أيضاً
في كتاب "حقول الدم" تحاول "كارين آرمسترونغ"، وهي الراهبة السابقة والكاتبة المتخصصة في تاريخ الأديان؛ أن تقاوم تلك الرؤية النمطية عبر دراسة طبيعة العنف المتأصل في الدولة. إذ إنه لا وجود للدولة الحديثة من دون استخدام للقوة؛ لكنّ الدولة العلمانية وجدت في "الدين" شمّاعة تعلّق عليها عنفها، وكبش فداء ضعيفاً تحمّله مسؤولية العنف الذي ترتكبه هي.
تحاول الكاتبة الإجابة عن سؤالين مهمين؛ أولهما: ما الأسباب التي أدت إلى نشأة الحروب والعنف الإنساني عموماً؟ والثاني: كيف وصلت العقول إلى تفسيرها بأن الدين هو السبب الرئيسي فى تلك الصراعات؟
القسم الأول من الكتاب "البدايات" عالج مآلات العنف وعلاقته بالدين في أطوار حضارية متقدمة في بلاد الرافدين والهند والصين، كما تعرضت للاضطهاد التاريخي لبني إسرائيل فيما أسمته "المعضلة العبرانية". بينما رصدت في القسم الثاني "الحفاظ على السلام" بدايات المسيحية وعلاقتها المتوترة بالسلطة، ثم مرحلة الامبراطورية المسيحية التي نشأت مع اعتناق الإمبراطور الروماني قسطنطين للمسيحية، ثم تعرضت للدين الإسلامي وطبيعة الفتوحات الدينية، قبل أن تحلل مسألة الحروب الصليبية.
في حين كان القسم الثالث "الحداثة" مهموماً بحركة الدين في الغرب منذ تقويض سلطة المسلمين في الأندلس، وظهور الدولة العثمانية، والحروب الدينية في أوروبا، ثم ملابسات هجرات الآباء الحجاج إلى العالم الجديد ومآلات ذلك. قبل أن تدون المؤلفة رؤيتها لما سمته "الإرهاب المقدس" ثم "الجهاد العالمي".
العبارة الرائجة
في الأوساط الغربية المعاصرة عبارة رائجة تقول: إن الدين كان هو السبب في جميع الحروب الكبرى في التاريخ. كيف لا؟! وكلا طرفي النزاع يرى "الله" في صفه هو وحده.
وهي عبارة تستنكرها كارين آرمسترونغ، فهي -على الأقل- تناقض حقيقة أن الحربين العالميتين لم تقوما بسبب ديني. كما أنّ المؤرخين الحربيين، عندما يناقشون الأسباب التي تدفع البشر إلى الحروب، يذهبون إلى أن عدداً كبيراً من العوامل الاجتماعية المترابطة، والعوامل المادية والأيديولوجية؛ كلها تشترك في دفع البشر نحو الحروب.
حتى أولئك الذين يسلّمون بأن الدين لم يكن مسؤولا عن كل العنف والحروب التي قام بها الجنس البشري؛ فإنهم ما زالوا يرون أن الدين يتصف بطبيعته بنوع من العدائية الأصلية والمتجذرة للآخر، وهم يدّعون بأن التوحيد خاصة غير متسامح، وأن الذين يعتقدون بأن الله يقف في صفهم؛ يستحيل معهم الوصول إلى تسوية أو إلى حلّ وسط. ويستشهدون على ذلك بالحروب الصليبية، ومحاكم التفتيش، والحروب الدينية في القرنين السادس عشر والسابع عشر. ثم يشيرون -وهو الأهم- إلى الإرهاب المعاصر لإثبات أن الإسلام دين عدواني بطبعه.
غموض المفهوم
تذكر المؤلفة أنها حين تقاوم ذلك التصور بأن تشير إلى أن البوذية -مثلاً- دين غير عنيف؛ فإن معارضي رؤيتها يردون بأن البوذية فلسفة علمانية وليست ديناً. وهذا المفهوم عن البوذية راسخ منذ القرن السابع عشر. وهنا نصل إلى لب المشكلة وهو أن المفهوم الغربي الحديث للدين مفهوم متحيز ومثير للعجب، فليس ثمة تقاليد ثقافية لديها مفهوم مشابه للمفهوم الغربي الحديث عن الدين، بل إن أوروبا المسيحية ما قبل الحديثة سترى هذا المفهوم للدين مختزلاً وغريباً. ومن الجدير بالذكر أن خلال الخمسين سنة الماضية أصبح واضحاً لدى المؤسسات الأكاديمية غياب أي طريقة عامة وكونية متفق عليها لتعريف الدين. وهذا مما يُعَقّد ويصعب أي محاولة للجزم بأن هناك نزوعاً طبيعياً للدين نحو العنف.
ومن الخطأ القول الحاسم بأن الدين عدواني دائماً، ففي بعض الأحيان قام الدين بكبح جماح العنف، وإذا كانت مثل هذه النجاحات نادرة، باعتراف المؤلفة، فإن ذلك يعود إلى العنف والسلطوية المتأصلة في طبيعة الدولة الحديثة التي نعيش فيها.
توريط الدين
ترى وجهة النظر العلمانية أن الدين كان ظاهراً بقوة في معظم أعمال العنف تاريخياً، ولا تمانع آرمسترونغ في ذلك، لكنها ترى أن السياسة هي التي ورطت الدين في العنف، فقد ادعت كل إمبراطورية ناجحة بأنها تحمل مهمة دينية، وبأن أعداءها أشرار، ضالّون طغاة. ولأن تلك الدول والإمبراطوريات كانت قد نشأت بالقوة؛ فإن الدين كان متورطاً في عنفها.
تقول: "ولأن تقديسَ أنشطتنا السياسية أمرٌ متأصل ومغروس في دوافعنا، فإن الثوار الفرنسيين ما إن نجحوا في تهميش الكنيسة الكاثوليكية حتى خلقوا ديناً قومياً جديداً. وفي الولايات المتحدة، أول الجمهوريات العلمانية، كانت الدولة محاطة دوماً بهالةٍ دينية، عن قَدَرٍ واضحٍ ومهمةٍ مؤيَّدةٍ من الله".
وقبل أن تنشأ الدولة القومية كان البشر يفكرون بالسياسة بطريقة دينية، وقد فرض الأباطرة المسيحيون، منذ قسطنطين، السلام المسيحي بالعدوانية نفسها التي فرض بها أسلافهم الوثنيون السلامَ الرومانيّ. وإذا كانت الحماسة الدينية ألهمت الحملات الصليبية؛ فإنها كانت سياسية في عمقها. كما كانت محاكم التفتيش محاولة بغيضة لتأمين النظام الداخلي في إسبانيا بعد الانقسامات التي تلت الحرب الأهلية. وكانت الحروب الدينية وحرب الأعوام الثلاثين مثارة بسبب النزعات الطائفية حول حركة الإصلاح، ولكنها في حقيقتها أيضاً كانت مخاضَ ولادة الدولة القومية الحديثة.
تبرر المؤلفة كل تلك الأحداث التي تداخل فيها العنف السياسي مع الدين بقولها: "حين نقاتل، فإننا نحتاج إلى مسافة تفصلنا عن أعدائنا، ولأن الدين كان أمراً مركزياً للدولة؛ فإن شعاره وأساطيره صوّرت الأعداء كوحوش شريرة تهدد النظام الكوني والنظام السياسي".
وبتسليط الذاكرة على القرون الوسطى سنستعيد كيف دان المسيحيون اليهودَ باعتبارهم قتلة الأطفال، والمسلمين باعتبارهم عرقاً شريراً ودنيئاً، والكاثاريين بأنهم سرطان يتنامى في جسد المسيحية. وإذا كانت تلك الكراهية تتحلى بقناعٍ ديني؛ فإنها مع غيرها من قضايا العنف الطائفي، كانت بلا شك استجابة للأزمات الاجتماعية التي رافقت مرحلة التحديث المبكرة، إضافة إلى بعض الطموحات السياسية.
الإسلام والعنف
كان أهم أهداف الكتاب، وفقاً للمؤلفة، هو مقاومة الرؤية المشوهة عن الإسلام، والتي سادت الغرب منذ القرن العشرين. وهي تكشف عن أن الدين في العالم ما قبل الحديث كان يتخلل جميع شؤون الحياة الإنسانية؛ لذا فمن الحتمي أن يكون لبناء الدول وخوض الحروب أبعاد دينية ظاهرة. ولم يكن الإسلام في هذه الناحية مختلفاً عن المسيحية أو عن الهندوسية والتقاليد الصينية. ومن المعروف أن جميع الأديان، بما في ذلك الإسلام، قد حثّت أتباعها على العدل والرحمة، ولكن بسبب طبيعة الدولة العدوانية كان على الأديان أن تكافح في سبيل تطبيق هذه القيم في ظل الظروف المأساوية والفاسدة للحضارة الإنسانية.
وتزعم آرمسترونغ أنها تفاجئ القارئ الغربي بحقيقة أن المسلمين في بداية الحروب الصليبية كانوا أكثر تسامحاً مع خصومهم من الصليبيين. فإذا كان الغزاة القادمون من أوروبا قد احتلوا القدس، وقتلوا سكانها، فإن الأمر احتاج خمسين سنة قبل أن يقوم المسلمون برد عسكري حقيقي على الصليبيين. وهي تفسر ذلك بأن روح الجهاد كانت آخذة في الخفوت لولا أن الهجمات المتتابعة القادمة من الغرب قد أعادت النشاط إلى هذه الروح.
أيضاً أفردت المؤلفة فصلاً مخصصاً عن "الجهاد" الذي بدأ منذ ثمانينيات القرن الماضي وأسبابه وملابساته ومآلاته. إضافة إلى مقارنتها الدائمة في طول الكتاب. وكان مما تعرضت له المؤلفة تفسير قضايا التكفير والردة، حين ذهبت إلى أن المسلمين كانوا في الماضي يأنفون من الحكم على أبناء جلدتهم بالردة، لأنهم كانوا يعتقدون بأن الله وحده يعلم ما في الصدور، ولكنّ ممارسةَ التكفير، التي أصبحت شائعة الآن، تعود إلى أن المسلمين أصبحوا خائفين من العدو الخارجي. وتضيف آرمسترونغ: عندما يهاجم المسلمون الكنائس أو المعابد اليهودية اليوم فإنهم ليسوا مدفوعين إلى ذلك بالتعاليم الإسلامية. فالقرآن يأمر باحترام أهل الكتاب، وهي تفسر ذلك بأنه يعود في المقام الأول للإمبريالية الغربية المرتبطة بالمسيحية. معترفة بأن التاريخ الغربي متورط ومشتبك بما يُطلق عليه "مشكلة الشرق الأوسط" أو "المشكلة الفلسطينيية"، فقد أسهموا بقوة في خلقها. وما يحدث من تدافع إلى أوروبا ما هو إلا رد فعل طبيعي لجرائم الغرب الاستعمارية القديمة.
ترى آرمسترونغ أننا نعيش اليوم في عالم مترابط، وبالتالي فنحن متورطون ومسؤولون عن مآسي الآخرين والآخرون مسؤولون عن مآسينا. والإرهاب الذي نستنكره، هو في جزء منه نتيجة للسلوك الغربي، كما أن الغربيين ليسوا وحدهم الضحايا. وقد سردت نماذج من حوادث الإرهاب التي راح ضحيتها أعداد كبيرة من المسلمين الذين تتجاهلهم التغطية الإعلامية في مقابل تسليط الضوء الكبير جدا على أي حادث إرهابي في الغرب مثل "شارلي إبدو".
والخلاصة أن المؤلفة تعمدت بشكل مركز ومقصود نقد الرؤية العلمانية الاختزالية للعلاقة بين الدين والعنف، حيث قدمت رؤية تاريخية أكثر عمقاً لتفهم طبيعة العنف والدوافع التي تقف وراءه، وقد خلصت إلى أنه لا مفر من الحرب، فالحضارة لم تنشأ ولم تستمر من دون العنف والإكراه، وإن كان سؤالها الموضوعي: كيف نحافظ على هذا العنف الحتمي في حدوده الدنيا؟!
(كاتب مصري)