صدر مؤخراً بالفرنسية كتاب "جيو-سياسة العوالِم العربية"، في طبعة مُشتركة عن "أيرولس" و"إيريس"، في محاولة لتقديم مفاتيح تساعد على فهم قضايا يتداولها الإعلام الغربي وتحيِّره: خصوصيات المُجتمعات العربية، بعد أن تبدّت انعكاساتُها السلبية في ديار أوروبا، مثل الجماعات المتطرفة وموجات اللجوء وعنف الثورات.
فقد أراد الكاتب، ديدييه بيون أن يلخص للقارئ أهم المعلومات الضرورية التي تؤكد مدى تعقد ما اصطلحنا على تسميته، "خطأً واستعجالاً"، بـ"العالم العربي". وهي تسمية لا تحيل، في نظرِهِ، على شيءٍ محدد، ولا تستدعي أيّ كيان جيو-سياسي واضح القسمات.
ولذلك، سعى الباحث إلى كسر المألوف من اعتبار العالم العربي كتلة واحدة مُوحَّدة، ذات أبنية متجانسة، تتحرّك نحو مصير مشترك. جاء في المقدمة: "في الحقيقة، إن المنطقة العربية شديدة التنوع. وليس ثمة خطأ أخطر من الاستمرار في النظر إليها كما لو كانت تجسيداً لوحدةٍ. إنْ هذه إلا أسطورة مُتخيّلة"، ومع ذلك، أشار إلى أنه "لا أحدَ ينكر أنَّ هذه الوحدة سبق وأن بلغت ذروتها في أواسط القرن العشرين مع تيار القومية العربية".
وقد نظَّر الباحث الفرنسي لهذه القناعة بعد رصدِ التحوّل الجوهري، الذي لا تزال آثاره تهز البلادَ العربية -بصيغة الجمع- والذي لم يحلله الباحثون بما يكفي، وهو الانتقال من مُتخيَّل الوحدة إلى واقع الاستقلال وتفرُّد كل قُطر عربي بِذاته، ليبني هويته الخاصة على انفراد، ويشيِّد ذاكرتَه الوطنية ومصيره القومي بمعزلٍ عن الدول "الشقيقة" الأخرى.
ولإقناع قارئه بـ"تعدّد" العالم العربي، ضرب عدداً من الأمثلة، ومنها البون البائن بين الدخل الفردي في اليَمن وبين نظيره في ممالك الجزيرة العربية. وأما مظاهر التعاون والتكامل بين الدول العربية، فيؤكد بيون أنها نادرة واستثنائية، وقد تضاءلت بسبب التنافس الإقليمي وصراع التكتلات وتفاقم التباينات، فضلاً عن اشتعال أتون عدة حروبٍ بين "الأشقاء العرب" واقتتالهم أحيانًا لسنوات طويلة.
كما يؤكد الباحث وجود تفاوت كبير حتى ضمن حدود الدولة العربية الواحدة، وداخل إطارها القومي، ومن أبرز مظاهره التفاوت الطبقي والجهوي والاقتصادي بين مكوّنات البلد الواحد (ريف- مدينة، عرب- غير عرب، أغلبية-أقلية، مخزن- سيبة...). ولذلك فضّل إطلاق تسمية "عوالم"، بحيث يشكل كلُّ بلد "عالماً" خاصًا به، تميزه مكونات ثقافية واقتصادية خاصة.
وتجدر الإشارة إلى تأكيد الباحث أن هذا التفاوت يغذيه الاحتلال الإسرائيلي وعجز المجموعة الدولية على إنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة، تمتلك مقومات السيادة والوجود الآمن. ومن قبله، غذاه عاملُ الاستعمار وما انجرّ عنه. وكلاهما مَنع الأنظمة العربية الفتية من التطوّر والنمو وتأمين انطلاقها نحو الديمقراطية ومزيد الحريات.
ولتوضيح هذه الأفكار، قُسّم الكتاب إلى أربعة فصول. وكل فصل منها يتألف من عشر جذاذات. ففي الباب الأول، ركز الباحث الفرنسي على المجتمعات العربية بين الوحدة والتنوّع، وتناول مظاهر التفاوت بينها على الصعيد الطائفي والاقتصادي. وأما القسم الثاني فخصّصه إلى "النزاعات والصراعات التي تهز المنطقة العربية"، بدءاً من الحركات الاستعمارية، مروراً بالحروب العربية-الإسرائيلية، ووصولاً إلى النزاع في سورية والعراق واليمن.
وركز في القسم الثالث على الديناميات السياسية المعاصرة والحديثة، متناولاً الأنظمة الفكرية التي حكمت تطوّراتِ المنطقة مثل الفكر القومي وتيارات الإسلام السياسي. وأما القسم الأخير فتعرّض إلى الرهانات الإقليمية والعالمية ووضع البلدان العربية ضمنه، منذ سياق الحرب الباردة، وما نتج عنها من توازن أو اختلال، إلى يومنا هذا.
وأما المسار العام للجذاذة، والذي اتبعه المؤلف بصرامة، فيمتد عموماً على صفحتيْن: يُضمنهما مربعاً أول أطلق عليه تسمية focus أي "بؤرة"، وفيها يتناول المحور الذي يُعنى بدرسه وتسليط الضوء عليه. ويُضمنها مربعاً ثانياً، سماه: A retenir أي "للحفظ"، أودع فيه المعلومة الأساسية التي ينبغي استظهارها والاعتماد عليها. وغالبًا ما يُخصّص الصفحة المقابلة لوسائل الإيضاح، مثل الخرائط والرسوم البيانية والجداول أو لبعض التوسع في الموضوع إذا كان يستحق ذلك.
فإذا تركنا جانباً الأفكار المعروضة في المقدمة، فإن الكتاب يقرُب أكثر من النزعة التبسيطية، ولهذه الأخيرة أهداف تجارية لا تخفى، فعرض المعلومات لا يرافقه أي تحليل أو تعمّقٍ في جذورها، مما يجعل الكتاب أقرب إلى منهج دراسي، مُوجَّه إلى طلبة المراحل الأولى، الذين يجهلون كل شيء عن المجتمعات العربية. ولئن أفاد مثل هذه الأعمال القارئَ الغُفلَ المبتدئ، فإنه لن يحمل جديداً لمتابع للشؤون العربية، بل قد يحجب عنه هذا التبسيط تعقد الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والترابط البنيوي بينها.
وليس هذا الكتاب ونزعته التبسيطية عن العالم العربي سوى عيّنة من كتب عديدة تملأ المكتبات الفرنسية اليوم، وهو ما يعكس ظاهرة ثقافية مرتبطة بمجتمع الاستهلاك. ويؤثر هذا التوجه بدوره على المادة المعرفية أيضاً، بحيث تتحول إلى "منتوجات" تميل إلى التبسيط والتقديم بشكل متعجلٍ. فحينما يتعلق الأمر بموضوع شائك، مثل بنية المجتمعات العربية، فإنَّ مثل هذه الدراسات الاستهلاكية توفر لا محالة إشباعاً فورياً، حول جانب ما، ولكنها لا ترقى إلى مصاف الأبحاث الجدية المعمقة التي يتطلبها الإدراك العقلاني لظواهر العالم العربي المركبة.
يبقى أن نتساءل عن اعتماد مصطلح "عوالم" عوض صيغة المفرد. هل لهذا الخيار حمولة سياسية، لاسيما وأن "الدول العظمى" هي من ساهمت في تقسيم البلاد العربية وتفتيتها إلى كيانات "مستقلة"؟ وهل ينفي تعدد فضاءات العالم العربي وتنوّعها، بالضرورة، وحدته العميقة التي نلحظها "من المحيط إلى الخليج"؟
ربما يصعب على مؤلفٍ، لا يغوص في نصوص العقل العربي، وتاريخه الإسلامي، أن يدرك كيف يحس العراقي والتونسي بأن لهما تاريخاً مشتركاً، وكيف يتذوّق السوري والجزائري على حد السواء أغاني أم كلثوم أو فريد الأطرش. وأعسر من ذلك، هل له أن يفهم كيف يُعد المتنبي رمزاً ثقافياً جامعاً، "يملأ الدنيا ويشغل الناس"، من عَرب اليمن إلى نُظرائهم في موريتانيا؟