"تيران" وصنافير".. أعمال السيادة في نزع السيادة!

07 اغسطس 2016

احتجاج في القاهرة ضد التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير(15إبريل/2016/Getty)

+ الخط -
درجت النظم المستبدة في العالم الثالث على الدفع بسواتر قانونية لأعمالها غير القانونية، متجاهلةً تماماً فلسفة الحصانة التي تتمتّع بها أعمالها. ذلك أنّ أعمال السيادة والحصانة من رقابة القضاء، ونطاق الشؤون الداخلية في مواجهة الطابع الدولي للأعمال الداخلية هي الذرائع الثلاث التي يتستر بها المستبدون فى العالم الثالث، حتى يفلتوا بأعمالهم غير القانونية، موهمين شعوبهم أنّها أغطية قانونية معترف بها في الدول الديمقراطية.
استخدام هذه المصطلحات في النظم الديمقراطية يكون له سياق واحد، هو أنّ الدولة قانونية وسيادة القانون فوق الجميع، ثم أنّها تقرّرت للصالح العام، وليس للإفلات من الرقابة القضائية التي تشكل الضمان الصلب لالتزام السلطة بالقانون. ولذلك، ضاق نطاقها مفسحةً المجال لسلطة القضاء.
وقد أتيح لمحكمة اللوردات في بريطانيا عام 2006 أن تستظهر هذه المعاني في قضيةٍ شهيرة، اتهم فيها ديكتاتور تشيلي السابق، الجنرال بينوشيه، بارتكاب جرائم ضد شعبه وضد أجانب، (نشرت مقالاً حينذاك في "الأهرام" عن القضية بعنوان Justice between Lex Lata and Lex Ferenda) فدافع بينوشيه بأنّه عضو في مجلس الشيوخ في تشيلي، وأنّه يتمتع بالحصانة، ولا سلطان للقضاء البريطانى عليه، كما دفع بأنّ جرائمه ارتكبها، وهو في حماية الدستور، ورئيس للدولة في تشيلي بصفتها من أعمال السيادة، فقرّرت المحكمة أنّ الحصانة تقرّرت لحسن أداء الوظيفة، وليست منحةً للرئيس، لكي يمارس السيادة لتحقيق مصالح الدولة والشعب، ولا تكون الحصانة وأعمال السيادة ذريعةً وغطاءً لارتكاب الجرائم، بل شدّدت المحكمة على أنّ رئيس الدولة الذي يرتكب الجرائم ضد شعبه، باسم الحصانة ومنطق الدولة Raison d’Etat، ويحتمي بأعمال السيادة، يكون عقابه مضاعفاً، لأنّه يكون الحامي للشعب، وليس قاتله، ثم إنّ الإفلات من القضاء باسم أعمال السيادة هو إفلات من العدالة، وهذه جريمةٌ دولية أخرى.
كما أكدت المحكمة البريطانية أنّ حصانة بينوشيه، بصفته عضواً في مجلس الشيوخ، كانت ثمن
الاتفاق بين الدكتاتور العسكري والحكم الديمقراطي، ولا تسري إلا داخل تشيلى، بل إنّ هذا الاتفاق موضوعه باطل، وهو الإفلات من العقاب على جرائم الجنرال الذي جنّدته المخابرات الأميركية للقيام بانقلابٍ عسكريٍّ على الرئيس الديمقراطي الشيوعي، سلفادور ألليندي، عام 1973، وظل بينوشيه حاكماً 17 عاماً حتى عام 1990، بعد أن رقّاه ألليندي قائداً عاماً للجيش بعشرين يوماً (23/8 إلى 11/9/1973). وقبض على بينوشيه في لندن في 10/12/1998 ليحاكم على انتهاكات حقوق الإنسان الخطيرة، وأطلق سراحه لظروفٍ صحية، لكنه حوكم في تشيلي، وتوفي في أثناء المحاكمة في 10/12/2006، والتهم المعلّقة عليه لا تقل عن حوالي 300 اتهام.

أولاً: أعمال السيادة فى مصر
يدور في مصر جدل حول أعمال السيادة بشأن جزيرتي تيران وصنافير، فقد عمدت حكومات العصر الجمهوري إلى إغفال القانون، وتأميم القضاء، وإشاعة أنّ السلطة، أي الفرع التنفيذي، وهو الحكومة، هي الأدرى بمصلحة الوطن، وأنّ الشعب قاصرٌ ولا يؤبه به، ومنحت لنفسها الحقّ في أن تتحدّث باسمه، تحت شعارٍ لطيف اسمه "أعمال السيادة"، تأسياً بالدولة الحقيقية ذات النظام الديمقراطي، فيكون التنازل عن الجزر من أعمال سيادةٍ، لا رقابة للقضاء عليها، ولا رقابة للبرلمان من باب أولى، ولا رقابة لأحد، فيضيع الوطن وسيادته تحت ذريعة أعمال السيادة التي يستخدمها بعضهم بصلافةٍ وفجور يُحسدون عليه.
ونسي الجميع أنّ الشعب أوقف هذه المهزلة في 25 يناير، وأنّ ما يحدث من تنازل عن أرض مصر بقرارٍ يوصف بالسيادي، هو انتهاك صريحٌ للفقرة الأخيرة من المادة 151 من دستور 2014. والأدهى أنّه، إذا كان التنازل خطيئةً سياسيةً، لا يشفع فيها الاستفتاء الباطل، فإنّ إسقاط الجنسية المصرية عن الجزيرتين بتلك الصورة خطيئة وطنية، وقهر لهذا الشعب على التسليم بالخطيئة، وهو إذا سلّم خوفاً، فسوف تلعن الأجيال القادمة هذا الجيل وعمله، وتستردّ ما ضيّعه من حقوقه. فالقضية لن تنتهى أمام القضاء، ولا البرلمان، لكنها تنتهى بالعودة عن الخطيئة والاستغفار لله، والاعتذار للشعب والوطن، وإلا اعتبر التنازل تفريطاً متعمداً لا يمكن تمريره.
والتنازل هو أي انتقاصٍ من عناصر الأرض المصرية، يوم أقسم الرئيس ورئيس الوزراء والوزراء ورئيس النواب والنواب والقضاة على احترام الدستور والقانون، ووحدة أراضي الدولة وسلامتها، وقد تولّى هؤلاء جميعاً السلطة، ومصر تحتضن جزرها، ويصرّون على انتزاعها من حضن أمها، ثم يرفضون لباس الستر، ويلحّون في هذا السلوك المستهجن بتحدّي محكمة القضاء الإداري الذي كان بحق، وجاء حامياً ضد محاولات نهب الجزيرتين، وشهادة ميلادٍ لقطعةٍ من الوطن فى مواجهة الزيف، لانتزاعها من أحضانه. ومن حسن الحظ أنّ هذا الحكم البليغ قطعة من الأدب القانوني، في تعليم من لا يتعلم، أنّ أعمال السيادة ليست قاصرةً على الحكومة، وأنّها ليست قدرا مقدوراً، وأنّ مناط حصانة العمل هو استهداف المصلحة العامة. ومن حسن الحظ أيضاً، أنّ رسالتي فى جامعة باريس تعالج، في أحد أقسامها، أعمال السيادة في مجلس الدولة المصري، كما تخصص فيها أيضا الدكتور محمد أحمد عطية، قاضي قضية اتفاقية الغاز بين مصر وإسرائيل.
أعمال السيادة (Act of State) وإن كانت في الغالب مرتبطةً بأعمال الحكومة، وهي تسمى بالفعل كذلك باللغة الفرنسية (ACTE de GOUVERNEMENT)، إلا أنّ الحكومة يجب أن تعمل في نظام ديمقراطي حقيقي، وأن يكون موضوع العمل مصلحة عليا في سلطةٍ تحظى بمصداقيةٍ كافية.
ونظراً لأنّ التنازل يكون لطرف أجنبي، وعن أرض مصرية، فإنّ ذلك يزرع الأشواك بين
الشعب المصري وشعب الدولة الأخرى، التي لم تطالب بشيء، وأنّ الحكومة المصرية تطوّعت، وتجرّأت على إسقاط جنسية الجزر المصرية، وتجاهد لإلباسها الثوب والجنسية السعودية، والسعودية منها براء. فأعمال السيادة هي قراراتٌ لصالح الوطن، وتتّخذها الحكومة وكيلاً عن شعب انتخبها، وأنّه أوكل للقضاء رقابة هذه القرارات، وبحث مصداقيتها، وعند اللزوم يتم اللجوء إلى الشعب، بالاستفتاء، وهو الأصيل صاحب السيادة على السلطة بكلّ مكوّناتها، وعلى أرضه.
وعندما تنفرد السلطة بقرارات تخدش حق الوطن، وسيادة الشعب، وتحتمي باسم أعمال السيادة، يحدث التناقض بين سيادة السلطة وسيادة الشعب، أو هو انحراف بالسلطة في ممارسة السيادة عن سيادة الشعب. وبالطبع، لا يمكن الاطمئنان إلى أنّ أيّ برلمانٍ في أي دولة هو الشعب، وإلا لما أصرّت الدساتير في الدول الديمقراطية على استفتاء الشعب، على الرغم من المصداقية الهائلة لبرلماناتها.
سيادة الشعب فوق سيادة الحكومة، وسيادة الوطن وقدسية أرضه ضد مزاعم إسقاط الجنسية والتنازل، هي العاصم النهائي من هذه الأساطير.

ثانيا: الفهم الخاطئ للحصانة والشؤون الداخلية
والمحزن أنّ من يحتمون بجرائمهم وراء الحصانة والشؤون الداخلية أشخاص حصّنوا عملهم على حساب الدولة، فرفعوا شعاراً غريباً، هو أنّ الحكومة حرّة فى التعامل مع شعبها، فترتكب جرائم تزوّر إرادته، وتسومه سوء العذاب، وتتفنن في ارتكاب جرائم حقوق الإنسان، وحجتها أنّها من الشؤون الداخلية، وأظن أنّ استحضار حكم اللوردات عام 1998 بالغ الأهمية، بعد زوال الغشاوة بثورة 25 يناير في مصر التي كانت وهجاً روحياً حرّر النفوس، حتى لو ظل أعداؤها يتخبطون فى الظلمات لاقتلاع الإيمان بالوطن وحريته من القلوب.
في قضية "صنافير" و"تيران" استقرّ الضمير الوطني والتاريخ والقانون والجغرافيا ووثائق الدولة جميعاً حتى يوم 9 أبريل/ نيسان 2016 على أن الجزيرتين مصريتان، وفوجئ الجميع بموقفٍ غريب من السلطة، بأنّها كانت سعودية، على الرغم من وثائق الأجهزة التي تربينا فيها، ومن دون مطالبةٍ من السعودية، وكنّا نود أن نرى مطالبةً، وتصدّت لها السلطة والشعب من ورائها، لا أن نرى المشهد المخزي لأم الدنيا الذي ضيّع هيبتها، وأخشى أن يتم التحكيم بين الشعب والسلطة، وهو ما حدث في حكم محكمة القضاء الإداري الذي فصل بينهما، فإذا السلطة كبر عليها، أن ينتصر الحق في مصرية الجزيرتين، فتجادل على غير أساسٍ، ولم تنتدبها السعودية لذلك، حتى صار الناس يتندرون في العالم كله، أهي حكومة سعودية بلباس مصري، أم أنّ في الأمر أمراً؟
على كل حال، ليس أمام الحكومة إلا أن تنصاع لحكم القضاء، وتلملم الموضوع، لأنّه لا يمكن تمريره، وإذا أرغم الناس، اليوم، فسوف يستردون حقهم غداً، وإنّ غداً لناظره قريب. على الحكومة أن تدرك أنها ارتكبت خمس خطايا سياسية، وثلاث خطايا قانونية.
أما السياسية، فأوّلها: أن الحكومة المصرية ظنّت أنّ الشعب قد أرهقته إجراءاتها، فأرادت أن
تمرّر صفقةً خاسرة، والخطيئة الثانية أنّه الحكومة ظنت أن نخبة الشعب قد استسلمت خوفاً أو طمعاً، وإما رضى بذهب السلطان، أيّ سلطان. والخطيئة الثالثة، أن الحكومة لم تدرك أنّ شباب ما بعد يناير لا يثقون في أحد، وسقطت أمامهم المقدّسات، بسبب الإمعان في تفريط المؤسسات في حق أنفسهم. والخطيئة الرابعة أنّ الحكومة لم تنسق بالقدر الكافي مع السعودية على صلب المسرحية، وأنها اختارت مؤلفاً غبيا، ومخرجا أغبى، وكذلك الممثلين، فهم يرقصون، وهم عرايا، ويرى الناس عوراتهم في زمن العولمة. الخطيئة الخامسة، أنّ السلطة ظنّت أنّ الجزر عربون تحالف أبديّ مادامت إسرائيل في نظرها هي الكفة الراجحة، فوضعت نفسها بحساباتٍ خاطئةٍ في الموضع الخطأ.
والمخرج الوحيد هو رضى الشعب، وكرامة مصر والمصريين، وتحرّر الناس في جمهورية الخوف، وبداية الطريق نحو التضحية بكلّ من ضلّل صاحب القرار، أو امتنع عن النصيحة، وفشل في مهمته غير الوطنية.
أما الخطايا القانونية، فهي ثلاث: الأولى، أنّ السلطة المصرية أرهقت القضاء، لكن الشباب يراهن عليه، على الرغم من الثقوب السوداء التي أحدثتها السلطة، خصوصاً في قضيةٍ تمثل الجزء الصلب عند كل الشعب، بمن فيهم القضاء والجيش والشرطة الذين يتم رهان السلطة عليهم، وهم أدوات الشعب وحماته.
الثانية أنّ السلطة قدّمت مبرراتٍ واهية، وسجلت على نفسها في التاريخ ما لا ترضاه سلطةٌ عاقلة، سمحت لعدد من شباب المحامين بهزيمتها في أولى المواجهات القانونية، بعد أن قمعت السلطة الشباب المحتج على التنازل عن جزر تخصه، ثم ارتكنت إلى كتابات أحد حوارييها إفلاساً ظاهراً محزناً، فدفعنا بكتابنا الدامغ دعماً لحكم محكمة القضاء الإداري.
والثالثة، أنّ السلطة أسقطت الجنسية المصرية عن الجزيرتين، وهي ملك الشعب كلّه في اغتصاب ظاهر للسلطة، فكيف تبرّر السلطة هذا العمل، بأنّه من أعمال السيادة؟
إنّه بحق، من أعمال نزع السيادة.
14D87FCD-BA94-44E9-AF94-40B67723B575
14D87FCD-BA94-44E9-AF94-40B67723B575
عبدالله الأشعل

سفير مصري سابق وأستاذ القانون الدولي والعلوم السياسية المنتدب بالجامعة الأميركية وبجامعة القاهرة، ومساعد وزير الخارجية الأسبق، والمرشح الأسبق لرئاسة الجمهورية، والأمين العام السابق للمجلس القومي لحقوق الانسان، والمدير التنفيذي المؤسس لمعهد البحرين للتنمية السياسية.

عبدالله الأشعل