دأبت عتبات النصوص، في الأدب الحديث، على تتويه القارئ قبل اقتياده بلطف وإغراء إلى مضامينها وعوالمها. في كل مرّة تتغيّر مواطن الفتنة والابتكار، مرة تتجلّى كلعبة على صعيد العنوان وفي أخرى تمسّ المتعارف في تصميم الكتب، وقد تصل إلى التلاعب بهوية الجنس الأدبي. وكثيراً ما يتعاون المؤلف والناشر في ذلك، فالعتبات منطقة تتداخل فيها صلاحيات هذا وذاك.
"تقارير تونسية مهرّبة" عنوان مجموعة قصصية صدرت مؤخراً عن "ورقة للنشر" للكاتب التونسي رضا بن صالح (1964). ومن بين العتبات التي جرى إهمالها في الدراسات، يختار المؤلف أن يفاجئنا من عنصر الإهداء، فهو لا يتوجّه إلى معلّم أو صديق أو فرد من أفراد الأسرة كما في معظم الإهداءات، بل إلى ثلاثة ممثلين من مشاهير الصناعة السينمائية: مورغان فريمان ودنزل واشنطن وجاك نيكولسون.
تلك لحظة في البدايات تدعو القارئ إلى تفعيل ذاكرته السينمائية، والتي سيحتاج إليها بالتأكيد حين يقطع نصوص بن صالح التسعة، يبدأها من "رحلة إلى نيويورك"، ويختمها بقصة اختار الحروف اللاتينية لعنونتها بـ"Al Muntanabi Returns".
لكن لعبة المؤلف هذه، والتي تبدو كمحاولة لسحب القارئ إلى مناطق بعيدة في التخييل، تصطدم بلعبة أخرى، ربما هي لعبة الناشر، حين تظهر في الغلاف صورة تحيل إلى موقع تسريبات الوثائق الرسمية الشهير "ويكيليكس"، فكأننا بالفعل سنلتقي بـ"تقارير" بين دفّتي الكتاب. هكذا، ومنذ مستوى العتبات، يكون التخييلي والتقريري، وقد بدآ في التداخل والتمازج لاقتراح تركيبة لا يتذوّقها القارئ إلا وقد أسقط ما كان جاهزاً لديه من نواميس قراءة مسبقة، سواء في الواقعي أو في المتخيل.
في قصة بعنوان "الحادثة"، لعلنا نجد جملة تصالح بين القطبين. يكتب المؤلف: "لا أحد تصوّر أن تقع تلك الحادثة ولكنها وقعت". تظهر العبارة بأكثر من صيغة وفي أكثر من موقع. تتداخل أحداث كثيرة في القصة، لكن تعقّدها وتشابكها يجعلها تبدو وكأن هدفها الأخير هو تحويل الجملة من الماضي إلى المستقبل، حيث نجد في نهاية النص هذه الصيغة: "ما وقع بعد ذلك لا أحد تصوّره" أو "ما وقع بعد ذلك، لم تدوّنه الشرطة في تقريرها". وما كان ابتداع جنس القصة لولا محاولة إكمال ما لم يُدوّن، أو "تهريب" ما تحاول الحواجز أن تعيق عبوره؟
هكذا يشتغل بن صالح على التتويه بين المرجعيات الواقعية والمتخيلة، ومن ذلك قصة "الزعيم" وفيها يتلاعب بعبارة مصادرة الأملاك فيطوّعها إلى مفردات الأدب فتكون "الشخصيات والأحداث السردية مشمولة بقانون المصادرة تبعاً للمرسوم عدد 13 لسنة 2011"، حتى أن النص صار "بعهدة متصرّف سردي بمقتضى أمر قضائي". في كل ذلك يذهب بنا المؤلف إلى ما وقع ثم يقوده إلى مخرجات مختلفة، أو يأتي إلى ما لم يقع فيجعله واقعاً في النص.
وهو يفعل ذلك، ربما علينا أن نلتفت إلى عتبة أخرى طالما أُهملت، وهي التعريف بالكاتب في إحدى زوايا الكتاب، والتي نقرأ فيها إلى جانب التذكير بإصدارات بن صالح السابقة، أنه بصدد إعداد رسالة دكتوراه حول "العوالم الممكنة".