اللحظة الأساسية لحكاية "تشويش" (2017)، للّبنانية فيروز سرحال، معقودة على مباراة في كرة القدم بين فريقين أجنبيين. لكن المناخ أكبر من اللحظة، والحيّز الجغرافيّ يتّخذ من مدينةٍ ملاذًا له، لالتقاط نبض شارع وأناس وعمارة وفضاء وعلاقات وانفعال. اللحظة محدّدة. المدينة ربما تكون مُحدّدة. الأهم كامنٌ في مكان آخر: المدينة ويومياتها. الأفراد ومشاغلهم. الأشياء وحضورها. الحالات ومساراتها. الانفعالات وارتباكاتها ورغباتها. العمارة وأشكالها وظلالها ومعانيها.
هذه لن تكون تفاصيل عابرة. الكاميرا متوغّلة في ثناياها ومسامها وفراغاتها ومساراتها. الأصوات المرافقة لها جزء من تملّكها المكان والهواء والمتاهات والأزقّة. لا كلام، بل موسيقى وأصوات وتعليقات وتمنّيات. الحركة أقوى وأعمق. العمارة ساكنةٌ، لكن روحها تتحرّك. الناس غير هادئين، لكن أرواحهم وأجسادهم متأهبة لمواجهة أو تحدٍّ، أو ربما صامتة عن كل مواجهة وتحدّ. التقاط المتتاليات البصرية مثير لارتباك المُشاهدة، وهو ارتباك يُحرِّض على مزيدٍ من التنبّه، إذْ ترتفع الكاميرا إلى الأعلى، فتبدو المدينة من فوق ضاجّة بأحوالها التائهة بين مساكن مأهولة وبيوت فارغة إلاّ من غبار وأنقاض وعزلات. أو بين أسطحٍ مفتوحة على "ألف حكاية وحكاية"، وسماء صافية على نقيض الضجيج الذي يختنق خارج أذنيّ صبيّة، تستمع إلى موسيقاها أثناء تجوالها "الغامض" في الأزقّة، كأنها تستمع إلى حياتها.
الكاميرا حاضرة، أيضًا، في تلك الأزقة. ترافق الصبيّة. تلاحقها. تتلصّص عليها، كتلصّصها على أفعال أفرادٍ، بعضهم الأول يستعدّ لمُشاهدة المواجهة الرياضية، وبعضهم الثاني يستكين إلى فنجان قهوة مستمتعًا بأغنية قديمة، وبعضهم الثالث ملتهٍ باقتناص قبلة من حبيبة. الصبيّة مُحيِّرة: أهي مُتجوّلة أو باحثة أو تائهة؟ لن تكون معرفة الجواب مهمّة. العمارات الحديثة تتجاور وتلك القديمة. لن تكون معرفة نتائج المقارنة ـ الجمالية والاجتماعية والثقافية والإنسانية ـ بين النمطين مهمّة. المباراة ستبدأ. لن تكون معرفة تفاصيلها مهمّة. لكن هذا كلّه، وأشياء أخرى أيضًا، سيكون مهمًّا، في تشكيله صورة مدينة ونبض اجتماع وملامح فضاء؛ وفي تلصّصه على أحوالٍ تعكس حالات؛ وفي اختراقه شيئًا من المخفيّ بأسلوب يميل إلى سوريالية وقائع ملتقطة بجمالية نبرة بصرية (الصوفا العتيقة التي تنقلها رافعة ضخمة إلى مسكنٍ ما؛ التجوال داخل بيتٍ عتيقٍ ومهجورٍ؛ تناقض سكينة البحر والسماء مع ضجيج أصوات ومفرقعات/ انفجارات/ إلخ؛ وغيرها).
لا أهمية لتحديداتٍ، بقدر ما تنفتح الصُوَر والأصوات على وقائع ومسالك. الانفجارات وأزيز الطائرات مزعجة. تساقط أوراق لن يُذكر ما فيها مزعج. الفتاة التي تتأرجح على مرجوحة في شرفةٍ تؤكّد تلك الغرابة، بابتسامة ملتبسة، وبنظرة غامضة. الغرابة حافزٌ لتنبّه إلى ما يعتمل داخل الفيلم، بسرديته الصامتة، وبشخصياته المهمومين بتفاصيل عادية، وبفضاء يتوافق وزرقة سماء وبحر في سكينة مشوبة بارتجاجات، مصدرها مجهول.
"تشويش" لفيروز سرحال: اختبارٌ جميل للعبة الصورة، في اختزالها جغرافيا مفتوحة على معلَّق وملتبس وغامض.
الكاميرا حاضرة، أيضًا، في تلك الأزقة. ترافق الصبيّة. تلاحقها. تتلصّص عليها، كتلصّصها على أفعال أفرادٍ، بعضهم الأول يستعدّ لمُشاهدة المواجهة الرياضية، وبعضهم الثاني يستكين إلى فنجان قهوة مستمتعًا بأغنية قديمة، وبعضهم الثالث ملتهٍ باقتناص قبلة من حبيبة. الصبيّة مُحيِّرة: أهي مُتجوّلة أو باحثة أو تائهة؟ لن تكون معرفة الجواب مهمّة. العمارات الحديثة تتجاور وتلك القديمة. لن تكون معرفة نتائج المقارنة ـ الجمالية والاجتماعية والثقافية والإنسانية ـ بين النمطين مهمّة. المباراة ستبدأ. لن تكون معرفة تفاصيلها مهمّة. لكن هذا كلّه، وأشياء أخرى أيضًا، سيكون مهمًّا، في تشكيله صورة مدينة ونبض اجتماع وملامح فضاء؛ وفي تلصّصه على أحوالٍ تعكس حالات؛ وفي اختراقه شيئًا من المخفيّ بأسلوب يميل إلى سوريالية وقائع ملتقطة بجمالية نبرة بصرية (الصوفا العتيقة التي تنقلها رافعة ضخمة إلى مسكنٍ ما؛ التجوال داخل بيتٍ عتيقٍ ومهجورٍ؛ تناقض سكينة البحر والسماء مع ضجيج أصوات ومفرقعات/ انفجارات/ إلخ؛ وغيرها).
لا أهمية لتحديداتٍ، بقدر ما تنفتح الصُوَر والأصوات على وقائع ومسالك. الانفجارات وأزيز الطائرات مزعجة. تساقط أوراق لن يُذكر ما فيها مزعج. الفتاة التي تتأرجح على مرجوحة في شرفةٍ تؤكّد تلك الغرابة، بابتسامة ملتبسة، وبنظرة غامضة. الغرابة حافزٌ لتنبّه إلى ما يعتمل داخل الفيلم، بسرديته الصامتة، وبشخصياته المهمومين بتفاصيل عادية، وبفضاء يتوافق وزرقة سماء وبحر في سكينة مشوبة بارتجاجات، مصدرها مجهول.
"تشويش" لفيروز سرحال: اختبارٌ جميل للعبة الصورة، في اختزالها جغرافيا مفتوحة على معلَّق وملتبس وغامض.