في هذا السياق، ترى وكالة "بلومبيرغ" الأميركية، أن "البداية ستكون من النمسا"، وأن "القارة الأوروبية ستكون على موعد مع تأثير الدومينو، بدءاً من شهر ديسمبر/كانون الأول المقبل"، ذلك لأن النمساويين سيتوجهون إلى صناديق الاقتراع لانتخاب رئيس للبلاد عقب اعتبار الانتخابات الأساسية في مايو/أيار الماضي "غير صالحة". مع العلم أن تلك الجولة، أظهرت تقدّم السياسي الشعبوي نوربرت هوفر، وحصوله على 49.7 في المائة من الأصوات، في مقابل 50.3 في المائة لمنافسه من حزب الخضر ألكسندر فان دير بيلين.
يطلق مراقبون في النمسا وخارجها على هوفر لقب "ترامب النمسا"، ويعطونه بذلك فرصة تكرار التجربة السابقة، استناداً إلى نجاح ترامب أميركياً. ولا يختلف هوفر عن الرئيس الأميركي المنتخب، إذ يعشق المسدسات ويحضر المهرجانات السياسية مسلّحاً. خطابه السياسي واضح: "النمسا أولاً" و"لا مكان للإسلام في بلدنا النمسا". كما يعيش السياسي اليميني "فوبيا" المهاجرين واللاجئين، ولا يختلف عما لدى الشعبويين الآخرين برفعه شعار: "مزيد من الشرطة وقوات الأمن وحراسة الحدود".
من النمسا إلى إيطاليا، ففي الرابع من ديسمير/كانون الأول سيكون الإيطاليون على موعد مع تصويتٍ لتعديل قوانين انتخابية. ونظراً لأهمية التعديلات، فإن رئيس الوزراء ماثيو رينزي كان واضحاً بقوله: "إن لم يقبل الشعب الإصلاحات المقترحة فسأترك منصبي"، في إشارة إلى مقترح التعديلات، التي يظن بأنها ستجعل النظام السياسي الإيطالي أكثر ثباتاً مما عاشه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945.
وإذا ما اختار الشعب إبقاء "فيتو" مجلس الشيوخ على قوانين وقرارات الحكومة، وإبقاء عدد أعضائه 315 شيخاً، بدلاً من تخفيضه إلى 100 شيخ بحسب التعديلات المقترحة، فإن من سيقطف ثمرة خسارة رينزي هو بيبي غريللو، الذي يتهم رئيس الوزراء الإيطالي، بـ"رغبته في تركيز السلطات بيده". بالتالي سيجد غريللو، وحزبه "النجوم الخمسة"، الفرصة ليتحول من محتجّ على سياسات محددة، إلى قيادي يميني شعبوي يقود الحكومة العتيدة، خصوصاً أنه ثاني أكبر حزب تمثيلاً في البرلمان الإيطالي.
وبعيداً عن إيطاليا، تبدو هولندا أمام تحوّلات سياسية جديدة، يُجسّدها غيرت فيلدرز. اليميني الشعبوي، كان من أول المعلقين على فوز ترامب في الولايات المتحدة، حين غرّد على صفحته في موقع "تويتر": "هؤلاء استعادوا بلدهم (من دون أن يوضح ممن) ونحن سنفعل ذلك أيضاً".
فيلدرز ليس حديث العهد على اليمين الشعبوي، وأمامه فرصة في 15 مارس/آذار المقبل للتقدم والفوز حتى في الانتخابات التشريعية الهولندية. مع العلم أن استطلاعات الرأي تعطيه فرصة مساوية لفرصة رئيس الوزراء الحالي الليبرالي مارك روته. وبما أن فيلدرز كان مجرد سياسي مغمور قبل سنوات، فإن أي فوز يحققه حزبه "الحرية"، سيكون انتصاراً كاسحاً لليمين القومي. يرفع فيلدرز شعار "نافسلوت" هولندياً، الموازي لـ"بريكسيت" البريطانية، واعداً شعبه بالخروج من الاتحاد الأوروبي. في هذا الإطار، تنقل "بلومبيرغ" عن أستاذ العلوم السياسية في جامعة غرونينغن، كيس أورتس، قوله إنه "بقدر ما جعل فوز ترامب أكثر تقبّلاً للأحزاب الشعبوية، فإن ذلك سيدفع الأحزاب والسياسيين الآخرين الذين كانوا في أدنى سلم الشعبية، لأن يصحوا مجدداً في مارس/آذار المقبل".
بدورها، لم تتأخر زعيمة "الجبهة الوطنية" اليمينية الفرنسية مارين لوبان، في التعبير عن فرحتها لفوز ترامب، في وقت لم تسعف الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، كل المحاولات في رفع شعبيته المنخفضة بشدة، حتى خلال إحياء الذكرى الأولى لضحايا تفجيرات باريس يوم الأحد. وعلى الرغم من تأهب الرئيس السابق نيكولا ساركوزي للعودة، فإن لوبان ليست قلقة على ما يبدو، فشعبية الرجل ليست أفضل حالاً من هولاند ولا من يوم خروجه الأخير من الإليزيه. عليه، تضع لاوبن نصب عينيها الانتخابات الرئاسية الفرنسية في جولتيها، يومي 23 أبريل/نيسان و7 مايو/أيار المقبلين، لتقود "الجبهة الوطنية" نحو ما تعتبره "انتصاراً محتوماً".
وعلى الرغم من التقليد الفرنسي الذي يضع حاجزاً بينه وبين الأميركيين، يبدو أن لوبان شذّت عن القاعدة واندفعت أكثر في اعتبار انتصار ترامب فوزاً لها، وأن "الناس حطموا أغلال النظام الذي ربطهم بانتخاب ترامب". وتُعتبر كلماتها بمثابة إشارة لما كان يردده الفرنسيون من أن "ترامب لن ينجح ولوبان لن تنجح". ووفقاً للبروفسور هاورد دايفيز فإن "الفرنسيين اليوم يسألون أنفسهم عما إذا كانوا متأكدين مما قالوه"، بحسب "بلومبيرغ".
كل السبل الأوروبية تصل إلى ألمانيا، البلاد التي يتخوّف الجميع من سيطرة اليمين الفاشي فيها، لاعتبارات جيوبوليتيكية وتاريخية. وعلى الرغم من أن الدستور الألماني بعد الحرب العالمية الثانية صُمّم ليمنع عودة الديكتاتورية والسلطات المطلقة للحكم، وعلى الرغم من المعارضة الشعبية الأقوى في أوروبا ضد الشعبوية، إلا أن ألمانيا تغيّرت كثيراً في السنوات الماضية. ففيها نشأت حركة "بيغيدا"، ومنها تعرّف الأوروبيون إلى زعيمة حزب "البديل لأجل ألمانيا"، فراوكه بيتري، التي رأت أيضاً في فوز ترامب "درسا يجب أن يتعلمه الألمان"، كما تنوّه إلى أن "كل الاستطلاعات التي لم تتوقع فوز ترامب في وسائل الإعلام فشلت، لذا على الألمان الآن امتلاك الشجاعة ليضعوا بصْمتهم في تصويتهم".
كما تعمل بيتري على التحضير للانتخابات التشريعية بين 27 أغسطس/آب 2017 و22 أكتوبر/تشرين الأول منه، في ظلّ عدم إعلان المستشارة أنجيلا ميركل بعد ما إذا كانت ستترشح لولاية أخرى. مع العلم أن ثمة رهانا غربيا، أوروبي تحديداً، على ألمانيا في عصر "أميركا الترامبية" لتكون هي حاضنة القيم الأوروبية ومكانة القارة العجوز كمكان مفتوح للمساواة والحرية والتعدد والرعاية الاجتماعية.
وهنا تكمن المفارقة الأكبر، إذ يرى كثيرون من الساسة ومن علماء الاجتماع السياسي، أن ألمانيا، مهد الفاشية في القرن العشرين، صارت، اليوم، أكثر بلد أوروبي محصناً من هذه الآفة، نظراً لما عاناه الألمان من تداعيات زعامة هتلر وحروبه والمصائب التي خلفها حكمه. ويسخر بعضهم من حقيقة الجذور الألمانية لدونالد ترامب، على اعتبار أن البلد الذي خرج منه ذوو الرئيس الأميركي المنتخب، صار محصناً أكثر من أي بلد آخر إزاء عدد كبير من الأفكار التي يروج لها ترامب، بينما تزدهر تلك "الأفكار" في الولايات المتحدة، التي لطالما كانت ولا تزال بلداً للمهاجرين، إذ كان العالم يظن أنه من المستحيل أن تتجه نحو الفاشية بما أنها بلد وافدين من كل أصقاع الأرض ممن أبادوا الشعب الأصلي، أصحاب الأرض.
**********************