"بي بي سي" وتحدّي غزة

19 يوليو 2014

اعتصام احتجاجي أمام مقر "بي بي سي" (يوليو/2014/ الأناضول)

+ الخط -

أطلقت تغطية هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، الهجوم الاسرائيلي العنيف على غزة، مجدداً السجال بشأن مفهوم التوازن الإعلامي، وعدم الانحياز الذي يشكل أحد ركائز مدرسة الإعلام العام البريطاني، وهي تعتبر مثلاً يحتذى به، لمحاولات إصلاح الإعلام الرسمي في العالم العربي وخارجه. وأثارت موجة الاحتجاجات على تغطية الهيئة العمليات العسكرية الواسعة النطاق ضد غزة أسئلةً هي في صلب هوية الهيئة: ما معنى عدم الانحياز في تغطية أزمات حادة، يكون فيها طرفا الصراع في حالة من عدم التوازن في استهداف الآخر؟ كيف يمكن الموازنة بين جرائم واسعة النطاق، تحصد مئات الأرواح، وتعديات أقل حجماً إلى حد بعيد؟ هل يعتبر إعطاء حصة متساوية لطرفين غير متساويين، وحدثين غير متكافئين، تغطية متوازنة للحدث، قادرة على عكس تعقيداته؟ كيف يمكن تحديد العلاقة بين الإعلام ناقلاً متجرداً للخبر والإعلام منصةً لفضح تعديات على حقوق الإنسان، وعلى الكرامة الإنسانية، ومناقشتها؟
 تنص شرعة "بي بي سي" على معالجة الأحداث والقضايا ذات الطابع الجدلي بـ"دقة وتجرّد"، بما في ذلك عدم التعبيرعن أي آراء تلزم المؤسسة، أو تصدر عن مراسليها وفريق عملها في ما يتعلق بهذه الأحداث. شكّل النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي أحد التحديات الكبرى أمام تطبيق مبدأ التجرّد في تغطية الحدث، على طريقة "بي بي سي"، بمعنى إعطاء الحصة نفسها للطرفين المتنازعين، للتعبير عن مواقفهما، ونقل الحدث من الجانبين بالحجم والمساحة نفسيهما.
لا يؤخذ على تغطية "بي بي سي" فقط محاولة الموازنة بين طرفين غير متوازنين، بل، أيضاً، تقديم تغطية باردة لحدث ملتهب، وقدرة مراسل الهيئة على أخذ مسافة من الحدث من داخله، وهو ما تعتبره الهيئة إحدى ميزات مدرستها الإعلامية، في حين يرى منتقدوها أن محاولة إيجاد توازن غير موجود فعلياً على الأرض، هو تزييف للحدث، كما أن عدم قدرة المراسل على التفاعل الإنساني مع الحدث، خصوصاً عندما يكون مأساوياً بحجم ضحايا العمليات العسكرية ضد غزة، هو تقليل من حجم المأساة، وتالياً تزييف للحدث.
ويقول المدافعون عن حرص الهيئة على الموازنة بين ما هو غير متوازن في تغطية النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، إن الهيئة المتّهمة بأنها تحمل نهكةً يساريةً، تعرّضت لضغوط كبيرة ممّن يعتبرون أنها تفرد مساحةً واسعةً للتغطية من الجانب الفلسطيني، في مقابل تغطية أقل حجماً من الجانب الإسرائيلي. وكانت الهيئة قد تعرضت لانتقادات واسعة، عندما رفضت

عرض إعلان خيري لتقديم المساعدة الإنسانية لأهالي غزة، في أثناء الهجوم الإسرائيلي على غزة عام 2009، بحجة الحرص على التجرّد، والخوف من اتهامها بالانحياز إلى الجانب الفلسطيني، وخسارة ثقة مشاهديها. كما رفضت الهيئة إذاعة إعلان خيري مماثل لدعم ضحايا الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، بحجة أن لديها شكوكاً حول إمكان إيصال هذه المساعدات. وقوبل قرار الهيئة في الحالتين باحتجاجات شعبية واسعة، وتظاهرات غاضبة أمام مقارها.
وتواجه الهيئة تحدياً مماثلاً في تغطية تداعيات ثورات الربيع العربي، إذ إن محاولة تغطية الحدث السوري من الجانبين، أي الثوار والنظام، قادت إلى حالةٍ أفردت فيها الهيئة مساحة للنظام لتبرير جرائم واسعة النطاق في حق شعبه. كما اضطرت إلى منح منبرٍ مماثلٍ للمجموعات المتطرفة، في ما يتعارض مع مبدأ عدم إعطاء منبرٍ لأي خطاب متطرف. تؤكد هذه العوائق، جميعها، صعوبة تعليب الحدث في مجرد نقل وجهتي نظر نقيضتين من الحدث، من دون الغوص في تعقيدات الحدث والأوضاع المتلازمة معه، لتفسيره ووضعه في إطاره الموضوعي.
ويشمل الاتهام الموجّه إلى الهيئة بتزييف الحدث، وسائل الإعلام الأجنبية الأخرى التي تفسح مجالاً موازياً للخطاب الإسرائيلي الذي يقدم هذه العمليات العسكرية على أنها رد مشروع على الصواريخ التي تطلقها حركة حماس، إلا أن العدد الكبير من الضحايا من المدنيين قاد إلى طرح السؤال على المنابر الغربية بشأن عدم التكافؤ في الرد، واستهداف المدنيين، وخصوصاً بعد قتل أطفالٍ كانوا يلهون على الشاطئ. وبعيداً عن التغطية الغربية للاعتداءات، تبرّعت أصوات من مقدمي "التوك شو" في المحطات المصرية، على سبيل المثال، بالدفاع عن العمليات العسكرية، بما يتفوّق على دفاع المتحدثين العسكريين الاسرائيليين أنفسهم، كأن تعلّق محاورة في التلفزيون المصري على سقوط عدد كبير من الضحايا الفلسطينيين بالقول: "ما تتقتلوا، إحنا مالنا؟".
هل ستؤدي الانتقادات إلى حثّ الهيئة البريطانية على إعادة النظر بتطبيقها مفهوم التجرّد في التغطية الإخبارية لأحداث جدلية في طبيعتها؟ سارعت الهيئة إلى الدفاع عن نفسها، هذه المرة، أيضاً، رداً على هذه الانتقادات، وهي تبدو أكثر اهتماماً بإرضاء الشريحة الكبرى من جمهورها البريطاني من الاهتمام بالشعارات التي رفعها المتظاهرون أمام مقراتها، لتذكيرها بأن غزة تحت الاحتلال وبأن الأزمة الحالية ليست فصلاً أحادياً مستقلاً عن تاريخ النزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني الطويل.

 


 

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.