أربعة عشر عاماً مرّت على انطلاق "بينالي الشارقة"، وهي مدّة عرفت فيها التظاهرة كيف تصل إلى انتظام في تقديم الفن المعاصر وربط صلات مع وبين فنانين من مختلف أرجاء العالم. إذ سعى "بينالي الشارقة" إلى تقديم منصّة ثقافية تخاطب عالم الفن المعاصر، في محاولة للوصول إلى فنانين ينتمون إلى أجيال وطموحات فنية مختلفة، وإيصال أعمالهم إلى جمهور عريض.
في دورته 13 التي افتتحت في العاشر من الشهر الجاري وتستمر فعالياتها حتى 12 حزيران/يونيو من العام الجاري، جرى تقديم توليفة من الألوان واللغة والموسيقى والصورة والسينما والعروض والفنون الأدائية والنقاشات. سبعون فناناً تستضيفهم هذه الدورة، من جنسيات متعددة يتحدّثون لغات كثيرة تُسمع في أروقة المعارض.
وضعت قيّمة الدورة، اللبنانية كريستين طعمة، مديرة جمعية "أشكال ألوان"، إطاراً لأعمال البينالي ارتكزت ثيماتها على أربعة عناصر هي: الماء، المحاصيل، الأرض، الطهي. اختيار هذه الثيمات بحسب طعمة يدخل "في صميم علاقتنا بالآخر، وعلاقتنا بالبيئة المحيطة بنا".
وفّر البينالي من جهة أخرى إمكانات جديدة مثل برامج تعليمية لفائدة الأطفال، في محاولة لخلق امتداد زماني، وآخر مكاني بإطلاق مشاريع في مدن مختلفة -إلى جانب الشارقة- هي بيروت وداكار ورام الله وإسطنبول، إذ يستمر العمل فيها على امتداد عام كامل. هذا التصوّر قد يتيح على مدى بعيد تأسيس ثقافة فنية، ويمدّ جسوراً للتواصل عبر لغة الفن.
رهان التنوّع الذي رفعه المنظّمون ظهر في البرنامج المقترح الذي خلق مزيجاً بين الفنون؛ السينما والتشكيل والنحت وفن الفيديو وغيرها.
حين نتجوّل كثيراً ما تباغتنا أعمال متّصلة بهواجس الفن بلغ بعضها مستوى عميقاً عبر كل فكرة؛ كأن يتحوّل الطعام إلى عرض أدائي، والطهي إلى مناسبة لتناول ظاهرة التصحّر التي تتهدّد العالم، فوجبة الغذاء التي قدّمتها مجموعة "كوكينغ سيكشنز" بعنوان "كلايمافور"، ظهيرة السبت الماضي، في شكل عرض أدائي يدعو إلى إعادة التفكير في ما يمكن للأشياء القابلة للأكل أن تسهم به في فهم المشهد الطبيعي المتغيّر في البلدان الأفريقية، ويشير إلى بدائل عن برامج المساعدات التي يعتمدها النظام الدولي إزاء الوضع في أفريقيا.
كذلك انطلقت المحاضرات الأدائية في مجملها من المخاطر المحدقة بالأرض، لكن بمقاربات تختلف في وسائل عرضها ومضامينها، ففي المحاضرة الأولى "عن النفط والجليد"، قدّم كل من رانيا غصن والهادي الجزائري قصّة تفاعلية تتناول بالنقد مصانع تحلية المياه ذات الاستهلاك الكثيف للطاقة، وبشكل أوسع نطاقاً، العواقب الجغرافية للتغيّر المناخي.
وانطلقت المحاضرة الأدائية "كوكب مارق" لـ أرجونا نعمان وشهيرة عيسى من فرضية خيالية تفترض أن كوكباً مارقاً في نظامنا الشمسي ينحدر نحو الأرض، لكنه لا يصطدم بالأرض، بل يصير عامل كسوف دائم يجلب الاضطراب ويغيّر وجه الحياة.
بينما تتخذ المحاضرة الأدائية "مراقبة الطيور" لـ لورانس أبو حمدان من الإنصات والسماع محوران رئيسان وفيها يعاين أوضاع سجن صيدنايا. ينطلق حمدان من شهادات الناجين من السجن بوصفهم "شهود سماع"، إذ إن قدرة المعتقلين على رؤية أي شيء في صيدنايا كانت مقيدة بدرجة كبيرة، فهم محرومون إلى حد كبير من حاسة البصر. ونتيجة لذلك، فقد طوّر المعتقلون حساسية عالية جداً تجاه الأصوات المحيطة، ما أتاح للفنان تصوّر السجن وإعادة تكوينه و"اكتساب بصيرة" تتيح له معرفة ما حصل داخل جدرانه.
الثيمات المقترحة كانت نوافذ مفتوحة على بعضها وحاضنة لبرامج العروض في أماكن مختلفة من مدينة الشارقة. تناولت الأفلام القصيرة المعروضة هي الأخرى ثيمات قريبة من الألم والمعاناة والعودة إلى الأرض، حيث قدّم فيلم "خطوة خطوة" لـ أسامة محمد 28 تصوّراً لعلاقة الإنسان بالأرض والوجود. أما فيلم "هدية من الماضي" فيعالج علاقة التقاطع بين الماضي والحاضر ووقوع الإنسان في مأزق العبور بينهما.
كما عُرضت طيلة أيام البينالي أفلام كثيرة عن الأرض، فقد قدّم ميتا هايفن فيلم "سماوات المعلومات" وهو يجمع بين التمثيل الحي، والتحريك، والتركيب الرقمي. ويحملنا فيديو "لمع 30 كغ" للفنان الفلسطيني شادي حبيب الله عبر تجلّيات مختلفة للوجود في علاقته بالجسد والروح، يستدرجنا العمل عبر قصّته إلى قلب المعاناة.
وبمواد تجمع بين الخرسانة والمعادن، والنايلون، والشمع، قدّم الفنان اللبناني مروان رشماوي أعماله التي تصرخ في وجه التوسّع العمراني في بيروت، كما يقدم رؤيته الفنية للعلاقة مع البيئة. فيما تستعرض الفنانة المغربية إيطو برادة في عملها المُركّب "سبَّاك" السلوك الاجتماعي في مدينة طنجة، فتضيء أعمالها أحلام وقصص ممتهني هذه الحرفة. أما "حدائق دبي" - وهو عمل للإماراتية هند مزينة - فيقدّم وجهة نظر فنية لتطوّر المساحات الخضراء في دبي، ويحمل هواجس إيكولوجية في مدينة سريعة التطوّر والتشييد.
حضرت الموسيقى أيضاً، متجاوزة حدود العرض الكلاسيكي، فقد قدّمت فرقة "كرخانة" حفلاً حاولت من خلاله استعمال لغة موسيقية جديدة ترتكز على لغة أصيلة في المنطقة، وباستخدام متنوّع للآلات الموسيقية تتخللها أحاديث تضجّ بالحياة، وحركات، وصيحات تدمج الجمهور في قلب العرض.
المسرح بدوره لم يخرج عن الرؤية العامة التي طبعت الدورة، فقد قدّم المخرج اللبناني روي أديب عمله "قريب من هون" على خشبة قاعة "معهد الشارقة"، وفيه كشف عن الشعور بالشوق والخسارة والغياب. أما العمل الثاني "مدينة نظيفة"، إخراج أنيستيس أزاس وبرودروموس سينيكوريس، فتعمّق في المدلولات الاجتماعية والفلسفية والسياسية لـ "النظافة" و"الطهر" بروح يونانية معاصرة. العمل انطلق من أسئلة مؤرقة: من ينظف أثينا؟ ولماذا نجد أن الغالبية من عمال النظافة من النساء والمهاجرين؟
لا تنتهي أعمال "بينالي الشارقة" بانتهاء عروض أسبوعه الافتتاحي، بل تستمر على مدار عام تقريباً، بغرض الوصول إلى جمهور متنوّع من خلال أربع مدن إلى جانب الشارقة. الفعاليات انطلقت قبل موعدها الرسمي، من خلال تظاهرة فنّية بعنوان "عاش استقلال الماء" أقيمت في العاصمة السنغالية داكار (بين الثامن والتاسع من كانون الثاني/يناير 2017)، ولاحقاً ستبدأ تظاهرة مماثلة في إسطنبول التركية في 13 أيار/مايو 2017 وثيمتها عن البحر.
أما ثالث المشاريع فينطلق في رام الله في العاشر من آب/أغسطس، ويدور موضوعه حول الأرض، ويكون الانتهاء في بيروت بالعودة إلى محور الطهي في الفترة بين 15 و18 تشرين الأول/أكتوبر 2017.