"بيت دراس"... يا وجع الحكايات العتيقة!

03 ابريل 2018
+ الخط -
على حدود الوطن السليب وقف اللاجئون ينظرون الى ديارهم ومزارعهم وقبور أجدادهم، التي رحلوا عنها على وقع مشاهد وفصول مروعة من الإبادة الجماعية التي مارستها العصابات الصهيونية وهي ترتدي الزي العسكري البريطاني.

طافت بنا أحلام وذكريات كثيرة وعادت الذاكرة لتعيد نسج حكايات عن أيام سلبها الغزاة، وعاد يشحذ خيالي حديث جدتي عن قريتنا "بيت دراس" التي اشتهر أهلها بالكرم والجود والشجاعة وعزة النفس ونصرة الملهوف.

كنت وأنا أقف على أطلال الوطن العتيق أذكر حديث جدتي عن بيوت القرية المصنوعة من الطوب اللبن والجريد، وعن شجرة النتل المزروعة في ساحة البيت، وبئر الماء التي كانت القرية تروى عطشها منها لا تبعد عن البيت سوى بضعة أمتار. كانت هذه الحكايات تعود إلى ذاكرتي فتبعث في قلبي الهمة وفي صدري العزيمة بالعودة إلى قريتنا بعد فراق دام سبعين عاما.


كان ما وثقته جدتي في حافظتها البيضاء لا يختلف عما سمعته في خيمة قريتي "بيت دراس" على الحدود، وهم يتحدثون عن أهل القرية وعاداتهم وتقاليدهم وأفراحهم وأتراحهم وأنسابهم ونوادرهم وموسم الحصاد، والوادي الذي كان يفيض على القرية في فصل الشتاء.

سمعت الشيوخ الكبار من رجال قريتي وقد قاربوا على الثمانين وداهمهم الزمن من كل جانب، يتحدثون عن شهداء القرية وبطولات أبنائها في مواجهة لواء الهاجاناة وصدهم أكثر من مرة في معركة "بيت دراس الأولى والثانية"، يساندهم أبناء القرى المجاورة. طاف الرجال بذاكرتهم إلى فصول الهجرة الأليمة وانتقالهم من قرية الى أخرى، وعصابات الصهاينة تلاحقهم وطائرات الانتداب البريطاني تقصفهم حتى وضعت الخيام أوتادها في قطاع غزة.

يروي العارفون من أقحاح القرية أنها تقع في الركن الشمالي الشرقي من الخيمة التي كنا نصطف حولها وداخلها، وتقدر مساحة أرضها 16357 دونما، وتحيط بها أراضي قرى المجدل والسوافير والبطاني وأسدود وحمامة، ويقدر عدد سكانها الذي اقتلعهم الاحتلال من أرضهم عام 1948 (19590). في القرية مدرسة ومسجدان يتلقى فيها أبناء القرية تعليمهم على يد بعض الشيوخ المجيدين للقراءة والكتابة.

كانت قريتي لا تبعد عن خيمة الاعتصام سوى 32 كيلومترا، يحول بيني وبينها جندي عسكري جاء إلى أرضي من بولونيا، يحمل في يده قناصة، ويتحصن في برج عسكري يصيب ويقتل كل من شارك في المسيرة أو اقترب إلى السياج الزائل، تحرسه دبابة على الأرض وطائرة تحلق في الأجواء.

ما أجمله من مشهد حين تعلو هامات المتظاهرين السلميين فوق السحاب، ويتعاون الصغير والكبير ويلتقي العامل والفلاح والصانع والمعلم والطبيب والسياسي في خيمة واحدة، فتذوب الفوارق وتختفي الألقاب والمسميات الباهتة خلف قصص العشق للوطن والحنين للعودة.

لم يرق للغزاة أن يُعَبر المقتلعون من أرضهم عن حقهم في العودة بسلمية وسلام، فصوبوا رصاصات الحقد لتسلب مهج الأطفال قبل الكبار، فيرتقي هنا شهيد وينادي هناك جريح، والمسعفون يحاولون تضميد جراح من استطاعوا قبل نقلهم إلى المشفى.

شاهدت طفلا كان يطلق في الهواء طائرة ورقية أصابته رصاصة غادرة في الصدر، وآخر يرسم جدارية لقريته ليضعها على مدخل الخيمة لحقت به رصاصة ثانية فاندفع الجميع إلى إسعافه، وثالث كان يلعب الكرة عاجلته رصاصة قناص فارتقى إلى الله شهيدا.

مع كل شهيد يرتقي تلقي الذاكرة بحممها الثقيلة علي، فتنتابني خلجات من الحنين لا أدري كيف أحاصرها قبل أن تحاصرني. كنت أتذكر أن باب الدار في قريتي ما زال مفتوحا ينتظر أهله، ونوافذه الصغيرة لم يغادرها الأمل بالعودة، وشجرة النتل تزداد شموخا وكبرياءً وهي تنتظر مواكب العائدين من الأهل والأحبة لتفتح لهم قلبها وذراعيها بعد طول الغياب.
0129593C-65A2-4C3D-AA26-DD2357446546
معاذ محمد الحاج أحمد

كاتب وباحث فلسطيني عضو رابطة الكتاب والأدباء الفلسطينية، له أبحاث في التسويق السياسي، يعمل لدى وزارة التربية والتعليم.