ظهرت في السنوات الأخيرة ترجمات لمجموعة كتب تؤرّخ لبدء الرحلات التي قام بها "الجوّالون" الأوروبيون إلى الشرق منذ نهايات القرن العاشر الميلادي، لإحضار المؤلّفات التي وضعها العرب في علوم مختلفة، تشكّل الفلسفة أهم مباحثها، كما يوثّق ذلك جيرالد جيمس تومر في كتابه "حكمة الشرق وعلومه"، أو دوروثي ميتلتزكي في "المادة العربية في إنكلترا العصور الوسطى".
المسار التاريخي لانتقال تلك المعارف إلى الغرب بات معلوماً، ورغم وجود إشارات عديدة توضّح مدى الانبهار والاستلاب اللذين رافقا الاهتمام بالحضارة العربية في أوروبا، إلا أن عوامل سياسية واقتصادية قادت إلى أن تسود نظرة عدائية تجاهها تنزع عنها مساهمتها وحضورها الكبير في التاريخ الإنساني.
"بيت الحكمة: كيف طوَر العرب الحضارة الغربية" للكاتب الأميركي جونوثان ليونز بترجمة فؤاد عبد المطلب، عنوان الكتاب الذي صدر حديثاً عن "وزارة الثقافة" الأردنية ضمن منشورات "عمّان عاصمة الثقافة الإسلامية 2017"، ويتتبع مؤلّفه سيرة الباحث الإنكليزي أديلارد أوف باث (1080 - 1152) الذي ارتحل إلى عدد من المدن العربية قبل أن يبلغ الخامسة عشرة من عمره من أجل إنجاز مهمة استثنائية في ذلك العصر.
غاب عن الناشر تثبيت معلومة أساسية تتعلّق بوجود ترجمة أولى للكتاب صدرت عام 2010 لـ مازن جندلي عن "الدار العربية للعلوم ناشرون" و"مركز البابطين للترجمة"؛ أي بعد سنتين على صدوره بلغته الأم، وإلى سبب الاختلاف في تعريب العنوان الفرعي للكتاب حيث اختار عبد المطلب "طوّر" بدلاً من "أسّس" في ترجمة جندلي، علماً أنها وردت بالإنكليزية "Transformed".
يقف ليونز في استهلاله عند نقطة رئيسية تبيّن الانعطافة الكبرى التي حصلت في أوروبا، حين يشير إلى أن المواجهة مع العلوم العربية أعادت ما يسمّيه "فن معرفة الوقت" الذي كان مفقوداً في الغرب، معتبراً أن ما كان للعرب أن يقدّموا ما قدّموه من دون "السيطرة الدقيقة على الساعة والتقويم" التي صنعت "العقلانية" لديهم في التفكير.
منذ الإحساس بالزمن، سيتمكّن الأوروبيون من استيعاب أرسطو بنسخته العربية التي وصلتهم لا الإغريقية طبعاً؛ مؤلّفات ابن رشد وابن سينا على وجه الخصوص، وهي البذور الأولى المولّدة لأفكار كوبرنيكوس وغاليليو بعد قرون، والتي عُدّت ثائرة آنذاك، ونظريات نيوتن في ما بعد، وفق الكتاب.
يشير الكاتب إلى نسيان الغرب المتعمد للتراث العربي "عندما أخذت الدعاية المعادية للإسلام التي تعمل في ظلّ الصليبيين بالتعتيم على أي اعتراف بدور العرب الثقافي العميق في تطوير العلوم الحديثة"، محدّداً أربعة ملامح لا تزال مؤثرة في المخيال الغربي، وهي تحريف الإسلام لكلام الله (اعتبر ديناً وثنياً)، وانتشاره بوساطة العنف، وإفساده النشاط الجنسي البشري (ربطها بتعدّد الزوجات والجواري أو إفراطه في الدعوة إلى احتشام المرأة)، واتهام النبي محمد بالدجل والشعوذة.
قسّم صاحب كتاب "الإسلام من خلال عيون غربية: من الحرب الصليبية إلى الحرب على الإرهاب" (2012)، دراسته إلى أربعة أجزاء حسب توزيع اليوم عند العرب، فالجزء الأول سماه العشاء، والثاني: الفجر، والثالث: الظهر، والجزء الرابع: العصر، في إحالةٍ إلى أولى تجليات مفهوم الوقت وربطه ببرنامج يومي.
يصف ليونز رحلة أديلارد الذي كان ضمن مجموعة من الباحثين الذين ذهبوا إلى الأندلس وتعلموا العربية هناك، والتي تقترن بالمراحل الأربع التي تضمّنها الكتاب، حيث يرصد الجزء الأول اجتياح الصليبيين للقسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، لتبدأ من هناك مقارنة بين شرق منظّم ونظيف ومتحضّر وبين غرب همجي وقذر ومتخلّف.
في الجزء الثاني، يتضح دور مكتبة "بيت الحكمة" العباسية في ازدهار بغداد نتيجة انفتاحها على حضارات أخرى كاليونانية والهندية، ويروي الفصل الثالث كيف نقلت نتاجاتهم المعرفية والفكرية إلى أوروبا، وصولاً إلى الفصل الرابع والأخير الذي يفصّل "اختراع الغرب" عندما امتلك الأوروبيون منظوراً عربياً لفهم الطبيعة والكون وطبيعة موقع الإنسان وتعامله معهما.