حتى وقت قريب شكّلت الحالة الإسبانية استثناءً أوروبياً مانعاً لتقدم اليمين القومي المتطرف على الساحة السياسية. لكن، يبدو أن نتائج انتخابات البرلمان الإقليمي في منطقة الأندلس، في الثاني من الشهر الحالي، تشير إلى بداية تغير مع تقدم حزب "بوكس" الذي تأسس رسمياً قبل نحو 4 سنوات. نتائج الانتخابات التي منحت الحزب، بزعامة سانتياغو أباسكال، 11 في المائة من مجموع أصوات أكثر إقليم إسباني اكتظاظاً بالسكان بنحو 9 ملايين مواطن، رأتها الصحافة المحلية بمثابة "زلزال أندلسي"، وذهبت صحيفة "الباييس" إلى حدّ اعتبار هذا الفوز هو الأكبر منذ فقدان مؤيدي الدكتاتور السابق فرانشيسكو فرانكو مقعدهم الوحيد في البرلمان عام 1982 "نحن اليوم أمام مجموعة متطرفة فكرياً باتت تضع قدمها داخل أحد برلمانات الوطن"، بحسب الصحيفة.
ومثل غيره من شعبويي أوروبا، لا يغيب عن "بوكس"، وخصوصا على لسان قادته، أمثال أباسكال، اعتبار "الإسلام خطراً"، رغم الانسجام الملاحظ في الأندلس ووجود جاليات مهاجرة، عربية وإسلامية وأوروبية. وإلى جانب ذلك يقف الحزب ضد المثلية الجنسية ويعارض الإجهاض ومصارعة الثيران، ويعد بتخفيضات ضريبية وفرض رفع العلم الإسباني على كل المباني العامة.
مؤيدو حزب "بوكس" في الشارع هتفوا بعد تحقيق انتصارهم الأول في الأندلس "تحيا حركة المقاومة"، فانضموا بذلك لتسويق عموم اليمين المتطرف في القارة الأوروبية لأنفسهم كحركات مقاومة للطبقة والأحزاب السياسية التقليدية في دولهم. ولا شك في أن نتائج الانتخابات عُدّت تراجعاً للاشتراكيين، أو كما وصفته الصحافة الإسبانية "هزيمة تاريخية"، نظراً لثبات اليسار في هذا الإقليم منذ 36 سنة. على الرغم من أن حزب العمال الاشتراكي، ظلّ الحزب الأكبر، إلا أن تراجعه من نحو 57 في المائة إلى 33 في المائة سيجعل من "بوكس" وحزب "الشعب"، المحافظ بحصوله على 26 مقعداً، وحزب يمين الوسط الليبرالي ثيودادانوس (حزب الموطنين) بـ21 مقعداً، يؤدون دوراً مؤثراً، ما سيمنح "بوكس" أيضاً موطئ قدم مقلقا في المنطقة. ولم يتردد زعيم الحزب، سانتياغو أباسكال، من التعبير السريع أمام جمهوره بعد صدور النتائج عن رغبته في استخدام هذا الفوز لمضايقة الاشتراكيين بالقول إن حزبه "يملك الآن مفاتيح طرد الاشتراكيين الفاسدين"، وفقا لوكالة الأنباء الإسبانية "ايفي".
زعيمة الاشتراكيين في الإقليم الأندلسي، سوزانا دياز قرأت أيضاً مخاطر تقدم اليمين المتطرف، بالقول إن "من الضروري الآن البدء ببناء جدار حماية في إسبانيا بوجه اليمين المتطرف". واعتبرت أن "هذه الظاهرة رأيناها في دول أوروبية أخرى، وهي وصلت الآن إلى برلمان الأندلس، وأطلب من الأحزاب السياسية الأخرى أن تعتبر نفسها مدافعة عن دستورنا الديمقراطي لوقف اليمين المتطرف". ولا يمكن أيضاً فصل تطورات الرغبات الكتالونية بالانفصال عن شيوع مشاعر قومية في الأندلس، وهو ما تبدى في مناسبات عديدة من خلال مسيرات ورفع أعلام إسبانيا بكثافة كرد فعل على دعوات الانفصال، فاليمين المتطرف يرغب، وفقاً لدعايته وبرامجه، في منح حكومة مدريد المركزية "المزيد من السلطات" على حساب الأقاليم، بل يهدد بمواجهة في الشارع لوقف أي توجه نحو الانفصال عن إسبانيا الموحدة.
أيضا ما يميز حزب "بوكس" عن زملائه الشعبويين في دول القارة الأوروبية أنه حزب يؤيد بقاء البلد في الاتحاد الأوروبي، لكن ذلك لم يمنع زعيمة حزب "الجبهة القومية" في فرنسا، مارين لوبان، من إرسال التهاني لهذا الحزب "فتهانينا الحارة للأصدقاء في بوكس، الذين كسبوا نتائج مهمة كما هو الحال دائما مع الحركة الشبابية الحيوية". ويبدو التعاضد بين أقطاب اليمين المتشدد على أبواب انتخابات البرلمان الأوروبي المقبلة، أحد أهم أسباب التقارب رغبة في اكتساحه وتقديم نفسه بديلاً عن الأحزاب التقليدية.
ما أشر إليه تقدم اليمين المتطرف في الأندلس، باقتحام هيئة تشريعية إسبانية، عبّر عنه أحد المرشحين الفائزين من هذا الحزب، فرانشيسكو سيرانو، بالقول إنه "بات الوقت مناسباً لرفع الصوت واضحاً لنقول من نحن، وبأننا جئنا لنبقى".
باختصار، الحالة الإسبانية جُربت في أكثر من مكان في القارة الأوروبية، من إسكندنافيا ودول الشمال، مع تقدم هذا المعسكر بشكل ملحوظ في دولها وفي فنلندا. كذلك في ألمانيا التي تشهد تغيّرات بنيوية في اتجاهات أخرى نحو التشدد، وتسابق حتى الأحزاب التقليدية على مجاراة الخطاب الشعبوية. كما أن التقدم يطاول هولندا والنمسا، وإيطاليا. ما يؤشر إلى أن انتخابات البرلمان الأوروبي في الربيع المقبل، ستكون لحظة فارقة وحاسمة تظهر مدى تنفذ وقوة اليمين القومي المتشدد في القارة مقابل تراجع يسار الوسط التقليدي.