"بلاك ميرور ــ باندرسناتش"... المستقبل يحدث الآن

02 يناير 2019
تكمن أهميةالفيلم بثوريته وتجديده وليس بقيمته الدرامية (نتفليكس)
+ الخط -
فور إطلاق فيلم المرآة السوداء: باندرسناتش (Black Mirror: Bandersnatch) أثار حالة من الجدل والدهشة وردود الأفعال المتباينة لعشرات الملايين حول العالم، ومنبع هذا الأثر كان بسبب أنها أول تجربة مشاهدة تفاعلية في تاريخ الصناعة الترفيهية.

حيث دور المُشاهِد فيها لن يكون مجرد المشاهدة والتلقي، بل اتخاذ قرارات لشخصية القصة الرئيسية (عن طريق الريموت وخيارات مكتوبة على الشاشة) تغير في مجرى الأحداث، وهو أمر ثوري كان من المتوقع أن يحدث منذ وقت طويل، تحديداً بعدما بدأ ذلك في ألعاب الفيديو، ولكن نتفليكس جعلته حقيقة، والمستقبل "التفاعلي" الذي سيغير كثيراً في شكل إنتاج وقصص بعض الأفلام والمسلسلات خلال عقد أو اثنين قد بدأ لتوه الآن.

صور صناع الفيلم (أو الحلقة الفيلمية) 320 دقيقة من الأحداث، تمثل أكثر من ست نهايات مختلفة ومحتملة للقصة، ولا يشاهد المتفرج منها في المرة الأولى غير حوالي 90 دقيقة، وربما أقل، حسب الخيارات التي سيأخذها للشخصية الرئيسية، وهو مبرمج للألعاب عام 1984 ويرغب في برمجة لعبة Bandersnatch التفاعلية التي لا يكتفي فيها اللاعب بالفوز أو الخسارة، ولكن باتخاذ القرارات والمسارات الخاصة به داخلها، وهو تلاقي بين "تكنولوجيا" الحلقة وبين "قصتها".

تلك الخيارات التي سيتخذها المتفرج تبدأ من اختيار حبوب الإفطار التي سيتناولها البطل أو الموسيقى التي سيسمعها كي تصبح هي شريط صوت المشهد، وصولاً إلى أمور تتعقد أكثر كلما مرت الأحداث؛ هل يقبل وظيفة مبرمج في إحدى الشركات أم لا؟ هل يذهب في هذا المسار أم ذاك؟ يأخذ حبوب الهلوسة المخدرة أم يرفضها؟ وهكذا بنهايات متعددة ومختلفة حسب اختيارك.

نتفيلكس تستغل كل النجاح الذي حققته خلال السنوات الأخيرة، وانتشارها بين ملايين من المشتركين، قبل أن تختار مسلسلا ناجحا بحلقات منفصلة الأحداث كـ Black Mirror لتضرب بتجربة "الدراما التفاعلية" لأول مرة، وتحقق أكثر من هدف كبير بحجر واحد: أولاً، يتحدث العالم السينمائي والتلفزيوني كله عن الفيلم بعد عرضه، بما يمثله ذلك من دعاية. ثانياً، تضع لنفسها السبق في تنفيذ تلك التكنولوجيا التي لم تكن لتحدث بغير منصة مشاهدة كتلك، وأخيراً، فإنها سترفع قيمة اشتراكاتها أكثر من أي لحظة سابقة لأن لا سبيل لـ"قرصنة" تلك الحلقة مثلاً أو عرضها بأي شكل آخر، والشكل الوحيد لأن "تعيش" تلك الحكاية هو أن تكون مشتركاً في المنصة الترفيهية! وهو أمر إنتاجي شديد الذكاء من قبلها.



الحقيقة أن تجربة المشاهدة التفاعلية مختلفة عن أي شيء آخر سبق أن رأيناه، تجعل المتفرج متأهباً أكثر من العادي لكل التفاصيل التي تمر أمامه بانتظار اللحظة التي سيقرر ويختار فيها، بمساحة من المفاجآت ومساحة من التلاعب والالتواءات، كجزء من ثورية التجربة في النهاية، ويصل هذا القدر من اللعب واستغلال الفكرة "التفاعلية" إلى حده الأقصى قرب نهاية أحد مسارات العمل، حين يزداد شعور البطل بالـ"بارانويا" وأنها لا تتخذ خياراتها بنفسها وأن شخص ما يتحكم فيها.

وفي لحظة ما يصبح لديك الاختيار في أن تقول له (كمتفرج) إنك تشاهده عبر نتفليكس وتحدد خياراته من القرن الحادي والعشرين! كل شيء في "لعبة" التفاعل والاختيارات ممتع ومثير ومدهش، وفيه شيء مختلف كأننا نتعرف إلى اختراع جديد لم نعهده من قبل، كأن تلك اللحظة تشبه شعور الناس عندما رأوا لقطة "وصول القطار إلى المحطة" سنة 1895 أو سماع صوت الممثلين في Jazz Singer سنة 1927، فهي لحظة مؤثرة جداً في هذا الفن ولا نعرف أبداً إلى أين سيمتد أثرها.

لكن في المقابل، ومثل فيلم "مغني الجاز" أو "وصول القطار"، تكمن أهمية Bandersnatch في ثوريته وتجديده، وليس قيمته الدرامية، فالعمل هش جداً على الصعيد القصصي، يشغل نفسه بأكثر من مسار عن "اللعبة" و"العلاقة مع الأب" و"المؤلف الذي ألف الكتاب القديم"، مع بعض الأفكار السياسية عن الحكومات التي ترانا وتتحكم فينا، أو الفلسفية عن "العود الأبدي" كما نظّر له نيتشه.

ودائرية الحياة التي تكرر نفسها إلى الأبد، وهي أمور تنجح حيناً في أن تتماس مع "تكنولوجيا" العمل ومنطقه عن وهم الاختيارات التي تقود لنتائج شبيهة، ولكنها في نفس الوقت تجرده من أي معطى أو أثر درامي أو عاطفي، يغلب عليك شعور أنك "تلعب" وما تراه على الشاشة من مسارات مختلفة هو أمر مصنوع ومفتعل لمساعدة التكنولوجيا التي تختبرها للمرة الأولى وليس لخلق قصة صادقة أو متماسكة وقوية في النهاية، وأن تلك الحلقة وفي أي من مساراتها لو كانت حلقة "عادية" لـBlack Mirror كان الجمهور سيعتبرها ضعيفة وغير مرضية، لكن كل تلك التحفظات لا تقلل أبداً من القيمة النهائية والثورية للعمل، وربما لم يكن مطلوباً منه إلا أن يؤسس لفكرة الدراما التفاعلية، وكون منجزه الوحيد هو جعل المستقبل يحدث الآن.. كافياً جداً كبداية لنجاح وأهمية الحلقة.
دلالات
المساهمون