"براميلهم" و"دواليبنا"

09 اغسطس 2016
نحن أيضاً نقاوم موت الأسد بكل ما يتاح لنا(Getty)
+ الخط -
في الخامس والعشرين من شهر حزيران/ يونيو الماضي قال ستيفن أوبراين مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية إنّ مدينة داريا السورية في ريف دمشق أصبحت عاصمة للبراميل المتفجرة في سورية، داريا المحاصرة من قبل نظام الأسد منذ أكثر من 1350 يوماً - وبحسب إحصائيات المكتب الإعلامي/ قسم التوثيق في المجلس المحلي لمدينة داريا، فإن المدينة تعرضت في شهر يوليو/ تموز الماضي فقط إلى (8 غارات للطيران الحربي، أكثر من 536 برميلا متفجرا، أكثر من 288 صاروخ أرض أرض، أكثر من 4954 قذيفة مختلفة الأنواع والأحجام).


هذه المعلومات أعلاه تلخص فقط كم التخريب الهائل الذي أحدثه الابتكار الإجرامي المُسجل باسم نظام الأسد -أي "البراميل المُتفجرة"- والتي صارت وسماً خاصاً وماركة خاصة به، ومثار فخر واعتزاز لمؤيديه الذين طالما طلبوا من مرؤوسيهم إغراق المدن السورية الخارجة عن سيطرة الأسد بهذه "البراميل المباركة" كما يصفها أتباع الأسد الذين لا يجدون غضاضة أو حرجا في الدعوة إلى تدمير المدن السورية بهذه اللعنة التي ابتلي بها السوريون، وبالطبع ليست داريا وحدها التي عانت من هذه اللعنة المبتكرة، فمدينة حلب خبرت أيضاً هذا الموت القادم من السماء والذي لا يستطيع المرء التنبؤ به أو توقع مكان سقوطه، وكثيرة هي الفيديوهات التي صورها جنود النظام من مروحياتهم والضحكات والحبور يعلو وجوههم، وبالطبع مئات بل آلاف الفيديوهات التي بثها ناشطو الثورة السورية وملأت مواقع التواصل الاجتماعي وهي توثّق لحظات الموت "المُبرمَل" بكل تجلياته وأشكاله، والكثير من هؤلاء المصورين فقد حياته أو جزءاً من أطرافه وهو يقوم بهذه العملية التوثيقيّة والتسجيليّة لكي يرى العالم هذا الموت السوري الخاص الذي ابتدعهُ نظام مجرم، يعرف العالم كله مدى إجرامه وخطره لكنّ رأسه يتبجَّح أمام وسائل إعلامه المقروء والمرئي بأ ن لا شيء هناك اسمه البراميل المتفجرة وأنّ جيشه ليس بحاجةٍ لمثل هذا النوع من الأسلحة!

قبل أيام قليلة كانت حلب الشرقية التي يسيطرُ عليها الثوار السوريون تدخل ضمن سلاح الحصار والتجويع الذي استخدمه نظام "الأسد الكيماوي" بكل براعة وخسة في مدن وأحياء سورية عدة، ثلاثمائة ألف سوري دخلوا ضمن هذا الوضع المُزري بعد سيطرة الأخير على طريق "الكاستيلو" ورصده وهو الطريق الذي يربط حلب المدينة بريفها، وغدت أسواق المدينة خاوية من كل أنواع الطعام، وأصبح النظام الصحي في حالة يُرثى بعد قصف طيران العدوان الروسي (المُتخصص في تدمير المشافي) لأغلب المشافي والمستوصفات التي كانت تقدّم خدمات استشفائية لمن تبقّى من أهل هذه المناطق، وبالتالي كان النظام يريد أن ينهي أسباب الحياة جميعها، كي يستسلم أهل هذه المدينة الذين قاوموا نظام العصابة الأسدية ومليشياته المتعدّدة ومن ورائهم عدوانا إمبرياليا توسعيا تُمثله "روسيا البوتينية" التي أتاحت لها السياسة الانكفائية "الأوبامية" عمل كل ما يحلو لها على الأرض السورية وكأنها مُنحت صك انتداب مفتوحا على سورية وأهلها.

لكنّ ثوار حلب وأهلها لم يستسلموا لهذا القدر المشؤوم ولا زالت بذاكراتهم تجربة "الباصات الخضراء" التي أخرجت أهالي حمص وثوارها في تلك الباصات الحكومية ذات اللون الأخضر برعاية أممية وبخطة إيرانية لتغيير ديموغرافية المدينة لصالح التمدّد الإيراني في سورية والمنطقة، لذا بدأت الفصائل هناك معركة معاكسة ومفاجئة لفك الحصار عن أحياء حلب المحاصرة، واستخدمت تكتيكات مختلفة بتحضير متميز ومختلف عن العمليات السابقة ونجحت في فك الحصار عن شطر المدينة الشرقي في طريقها لتخليص المدينة كلها من سيطرة قوات النظام.

اللاعب الأكبر والعامل الأكثر تميزاً هو اشتراك الأهالي والتحامهم مع الثوار بهذه المعركة عن طريق ابتكار خاص يُسجل باسم أهل حلب وهو إشعال إطارات السيارات "الدواليب" للتعمية على الطيران الروسي وطيران الأسد في خطوة ابتكارية أراد بها أهل المدينة إبراز دور المقاومة المدنية والشعبية إلى جانب المقاومة المُسلحة، وإفهام العالم بأن أهل حلب وغيرها لن يستسلموا وسيتخدمون كل السبل المتاحة في مواجهة العنجهية الأسدية ومن ورائها الكولونيالية الروسية الجديدة التي أعلن وزير دفاعها بنفسه عن إتمام حصار أحياء حلب الثائرة.

الصور الآتية من حلب وريفها، كانت تفوق كل الأوصاف والتشبيهات، فعمليات حرق الدواليب وصبغ سماء المدينة باللون الأسود كانت أشبه بطقس احتفالي دون الاكتراث بالأخطار والموت القادم من طائرات روسيا ومروحيات وكيلها الأسد، وكان لهذه الصور أبلغ الأثر في رفع معنويات السوريين التي كانت على وشك الانهيار، ولعل الصورة الأبرز والأكثر تأثيراً في النفس هي الصورة التذكارية لمجموعة الأطفال الذين انتهوا من إشعال الدواليب الخاصة بهم وهم يبتسمون للكاميرا وكأنهم يقولون للعالم الغافل عن الأسد وإجرامه: نحنُ هنا أيضاً نقاوم موت الأسد بكل ما يتاح لنا، نحن صناع الحياة وأبطال الأسطورة السورية الحية، ومثلما أشعل أطفال درعا ثورة السوريين بكتابتهم على حيطان مدرستهم، ها نحن نكمل فصول هذه الأسطورة بدواليبنا المشتعلة التي تقاوم أكثر الأنظمة إجراماً في العالم ومن ورائها روسيا المزهوة بفائض قوتها وبطشها.

لطالما تغنى مؤيدو الأسد ببراميلهم المتفجرة وبالبوط العسكري الذي قدسوه وصنعوا التماثيل له، أما سوريو الثورة فباتوا اليوم يمجدون تلك الدواليب التي ملأ دخانها سماء تلك المدينة العتيقة حلب، وباتت صور السوريين مع دواليبهم أيقونات خالدة ستبقى محفورة في الذاكرة طويلاً.

(سورية)

المساهمون