"انتقام جندي": وسترن متحرّر من الأيديولوجيا

15 يوليو 2020
مايكل فيفر وكايا كولاي في بيفرلي هيلز عام 2019 (غريغ دوهرتي/Getty)
+ الخط -

خاصيّة جمالية تُميّز "انتقام جندي" (2020) للأميركي مايكل فيفر: قدرة مُدهشة على التحرّر من سطوة أفلام الوسترن المعهودة وثقلها التاريخي. أفلامٌ غربية كثيرة ظلّت تُصوّر ذلك الغرب الأميركي بكيفيات سينمائية متفاوتة، تارة بوصفه مركزاً لنشوء الأساطير والفكر الغيبي، وتارة أخرى باعتباره مرتعاً لاستفحال العنف والكائنات الفضائية الغرائبية.

عادةً، يُركِّز مخرجون، سينمائياً وتاريخياً، على النصف الثاني من القرن الـ18، أو على الحرب الأهلية الأميركية، كما في "انتقام جندي"، علماً أنّ الاختيارات الجمالية فيه واضحة منذ البداية: تحرير مُخيّلة المُشاهد من السطوة التاريخية (المشروعة سينمائياً)، التي ميّزت أفلام الوسترن، بإضفاء فيفر مسحة معاصرة وأكثر واقعية على فيلمه، جاعلاً شكله خفيفاً ومُستحبّاً، ومُراهناً على قليلٍ من الحركة، وعلى قهر الماضي، وجماليّات النصّ، ومَكر الواقع وعنف الذاكرة وأوجاعها. لهذه الأخيرة مكانة كبيرة في استنبات الأحداث وتوليدها، وتشعّب خيط الحكي عن طريق أحلام اليقظة، التي تُمثّل عنصراً جمالياً مُستقلاً لدى فيفر، إذْ إنّه يلوذ إلى الأحلام التي تتسبّب بها الذاكرة، لقول ما لا يُقال عن ذلك الماضي البشع والحزين والمُعذِّب للبطل، الذي لا يزال يُمارس عنفه على ذاكرته ويومياته.

مفهوم الذاكرة في "انتقام جندي" خيطٌ لسرد الأحداث، يُتيح للمُشاهد إمكانية فهم الخلفية المؤسّسة لها. هذا الماضي يحضر عبر أحلام اليقظة، ولو بشكلٍ صُوري مُتقطّع واستيهامي، وتغلب عليه الشذرات. والكوابيس التي تغتال مُخيّلة الجندي فرانك كونور (نيل بْلدْسو)، جعلها فيفر وسيلة جمالية للحكي وتأطير الخلفية. لكنّه لا يلبث أنْ يُنبِّه المُشاهد إلى أنّ الماضي يُؤسّس شرعية حاضر البطل، ويصنع الصورة السينمائية، ويرسم لها عوالمها التخييلية، ويتتبع ويسبر مسار وأغوار الشخصيات وتراجيدياتها الساخرة والأليمة. خاصة أنّ مفهوم الماضي/ الذاكرة أشبه بلعنة يعيشها كونور، وتُنكّل حياته، وتجعله مُقيماً في ذلك الماضي لا يفكّر إلا في الانتقام واستعادة حياته وحريته وذاكرته المُتصدّعة، والمسلوبة من ماضٍ بعيد وحربه الأهلية البشعة والدموية. ماضٍ يجعله مُدمناً على الخمرة، ويُحوّله إلى أخطر صائدي الجوائز في الغرب الأميركي.

يقول فرانك، ساخراً من صديقته النائمة إلى جانبه في بداية الفيلم، بعد استيقاظه من النوم فزعاً: "هل سبق أنْ رأيتِ رجلاً، فروة رأسه ممزّقة؟". تجيبه بنبرة يأس وغضب: "تباً لك فرانك كونور". بهذه الكلمات اللمّاحة والساخرة، يفتح مايكل فيفر الصورة السينمائية على بشاعة الحرب وذاكرتها، وعلى سخرية القدر ولعنة ماضٍ يكاد يقضي على حاضر مُرتبك، بمجرّد زيارة طفلين لكوخه المنعزل، فيُقرّر مساعدتهما. في هذه اللحظة، يتوقّف خيط الحكي، وتتّخذ القصّة مسارات جمالية أخرى، ينعدم فيها مفهوم الحكي، وتحلّ مكانه قوّة الحركة والمغامرة، ما جعل الفيلم ـ في مَشاهد منه ـ يُمثّل استمراراً لبعض أفلام الويسترن، من حيث الحركة والتصوير واللقطات ومَشاهد الصحراء والفيافي البعيدة، وغيرها من الجماليّات البصرية في أفلام الغرب الأميركي.

بتجاوز طبيعة هذه الأنساق البصرية المألوفة في أفلام الوسترن، تظهر جماليّات أخرى تُميّز "انتقام جندي" وتجعله مُتفلتاً من سُلطة النموذج الغربي، عبر فتنة النصّ وحكايته المُتموّجة، التي تجعل عملية الفهم غير متوقّفة عند نسق بصري واحد، بقدر ما تُشكّل سلسلة من الأفكار والصُوَرِ المُترابطة فيما بينها، ممثّلةً نسيجاً قوياً للنصّ، الذي يكاد لا يخرج عن بوح وجدانيّ، تُغذّيه طبيعة القصة الدرامية وشفافيتها وقدرتها على اختراق المُشاهد بفضل حجم الألم المُنساب في الصورة. هذا يعمل خفية على تأثيث المَشاهد. وأيضاً على مستوى مدى حضور الموسيقى التصويرية وزخمها، التي تكاد لا تُفارق مَشاهد كونور في وحدته ومأساته. بالإضافة إلى تنصّل فيفر من الطابع الأيديولوجي، الذي وَسَمَ بعض أفلام الوسترن، وأحكام القيمة حول العنف والاستعمار والسرقة وبعض الأقليات والشعوب.

مع ذلك، لم يستطع مايكل فيفر أن يصمت إزاء ويلات الحرب الأهلية الأميركية، ومدى تأثيرها في بنية المُتخيّل الأميركي حينها، خاصة أنّ مشاهد كثيرة تُظهر بشكل قويّ رفضه الحرب، التي تُرخي ظلالها وألمها على حاضر البطل، وهو نُسخة مُصغّرة عن الفرد الأميركي في تلك الفترة.

المساهمون