"اليوتيوبر" السوري .. ردحيَّات وملابسات
يبدو أن ما أصابنا، نحن السوريين وأشباهنا، وما زال مستمراً، بنا من مصائب سبّبها الطغيان وطغاته، بدأ يجرف غير قليل منا، خصوصا على وسائل التواصل، إلى حالات شبه هستيرية، تشبه الردحيّات، أمام ظواهر جديدة لم نستوعب بعد تسارع مفرزاتها، وتشعب بواعثها وغاياتها، وأحياناً تنفيثاً سريعاً ومباشراً لحالات احتقانية.
أفرزت وسائل التواصل الجديدة، فيما أفرزته، أشكالاً تختلف عن المألوف الذي ساد زمناً في الشهرة والنجومية وطرق الإعلان. صارت في الإعلان اليوم تفننات وابتداعات تأتينا، على مدار اللحظة عبر جوّالاتنا، بأشكال متعددة، نافضةً عن ذاتها إشكالات الرقابة، لتنسلَّ إلينا عبر كل منفذ، من الشكل التقليدي للإعلان، أو عبر ترويجٍ من نجم مشهور، وربما عبر قصّةٍ مرئية تستهوي أو تغري أو تستفز. والشهرة أيضاً أضحت أكثر تسارعاً وبأساليب مختلفة عبر وسائل التواصل، ومنها مشاهير الـ "يوتيوبر" ممن يستحوذون مشاهداتٍ عالية الأرقام، بعيداً عن أهمية المحتوى، وبغير مبالاةٍ بحقيقة الإعجاب بمضمون ما يقدّمون. ومعظم هؤلاء المشاهير، قدماء وجدداً، يتم استثمارهم إعلانياً وبطرق متعدّدة تعدّد ما تتفتق عنه المخيِّلة الترويجية من أفكار إعلانية للوصول إلى المُستَهدَف، زبوناً أو مستهلكاً، بمختلف الوسائل، وإن كان بعضها استفزازياً يُحدِث حالاتٍ إشكالية تثير جدلاً، فذاك يساهم أيضاً في انتشار أكبر، ويحقق مزيداً من غايات الوصول.
تكلفة الإعلان على البرج في دبي، وزيادة عليه ما قبضه "اليوتيوبر" السوري لقاء مشاركته الشخصية والعائلية والإعلامية عبر قناته، كلها دفعتها شركة عقارية
أكثر الأمثلة الحاضرة تطابقاً مع ما تقدّم، عن الحالة السورية المحتقنة وأشباهها، وتفاعلاتها مع واقع ما تفرزه وسائل التواصل المستحدثة، برز قبل أيام في قضية "يوتيوبر" سوري، نجل أحد أعضاء ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، وما أثاره من جدل واسع، اعتبره سوريون كثيرون استفزازاً لمشاعرهم، واستهتاراً بمعاناتهم، لترويجه مسألة عائلية شخصية عن نتيجة اختبار حمل زوجته لتحديد جنس المولود القادم، وعرض النتيجة باستعراض خيالي، وإبهار بالإضاءة والمؤثرات على برج خليفة، العقاري في دبي، وهو الأعلى في العالم، مع إشارة إلى تكلفة هذا الإعلان، في دقائقه الثلاث، التي قاربت مئة ألف دولار، بحسب ما يتداولون، وهو ما اعتبروه ترفاً وبذخاً استعراضيّاً مستهتراً بمعاناتهم.
غاب عن كثيرٍ من الغاضبين أن الموضوع هو إعلان لشركة عقارية كبرى، ظهر اسمها واضحاً في الإعلان، بكل ما يحمله من ترويج لها، ولعودة نشاطها، وللبرج بحد ذاته، كما لدولة الإمارات التي تريد أن تقول إن الحياة فيها طبيعية ومزدهرة بحفاوة وترف وسط كل الأزمات... تكلفة الإعلان، وزيادة عليه ما قبضه "اليوتيوبر" السوري لقاء مشاركته الشخصية والعائلية والإعلامية عبر قناته، كلها دفعتها الشركة العقارية.
في أثناء حالة السخط العامة في أوساط السوريين عبر وسائل التواصل، وجهت التفاعلات سهام نقدها إلى "اليوتيوبر" ووالده العضو في الائتلاف المعارض
ومهما كان الرقم مضاعفاً عمّا تم تداوله، فإنه، بحسب خبرة صنّاع الإعلانات، مبلغ ضئيل، حتّى عبر وسائل التواصل، فالوصول إلى عشرة ملايين مشاهدة للإعلان في الساعات الأولى لنشره، وما سيتبعه، سيجعل من أي مبلغ مدفوع يهبط إلى أقل من سنتٍ واحد لكل مشاهدة، بمعنى أنه أقل من تكلفة أي مطبوعة ترويجية مهما صغرت، بل أقل من تكلفة "كرت فيزيت" يحمل اسم الشركة، مع استحالة إيصاله إلى هذه الأعداد المليونية بساعات، فيما الإعلان العقاري على وسائل التواصل، "فيسبوك" مثلا، يكلّف بضع دولارات لكل ضغطة مشاهدة من المتلقي المهتم بالإعلان، فالموضوع، من الناحيتين، المالية وعائديته التي تريدها الشركة المعلنة، حقق غايتها، وربما أكثر مما طمحت، بعدما ساهمت حالة الجدل التي أشعلها الإعلان و"اليوتيوبر" في زيادة الانتشار، مشكلاً لها مكسباً إضافيا.
وفي أثناء حالة السخط العامة في أوساط السوريين عبر وسائل التواصل، وجهت التفاعلات سهام نقدها إلى "اليوتيوبر" ووالده، باعتبار الأخير عضواً في الائتلاف المعارض، متهمة الابن والأب معاً بالبذخ والترف والاستهتار بمشاعر أبناء الجلدة والوطن ومرارة عذاباتهم ومعاناتهم في المخيمات والداخل والمهاجر، توهماً من منتقدين كثيرين أن "اليوتيوبر" هو من أنفق الـ 96 ألف دولار، ترفاً أمام حدث عائلي أقل من عادي. وربما كان الحدث على واجهة برج خليفة في دبي فرصةً لمن وجدوه سانحةً للنيْل عبر الأب من الائتلاف السياسي المعارض، والذي ينظرون إليه خارج سرب تمثيلهم الحقيقي والتعبير عنهم. وغابت عن معظم تعليقات المتفاعلين، في موجة الغضب والسخط، قضية الصنّاع الحقيقيين والممولين وغاياتهم البعيدة في الحسابات ولغة الأرقام عن لغة الأحاسيس والمشاعر.
ساهمت حالة الجدل التي أشعلها الإعلان و"اليوتيوبر" في زيادة انتشار اسم الشركة العقارية مشكلاً لها مكسباً إضافيا
ليست الحالة هنا موضوع تبرئةٍ أو إدانةٍ لموقف شابٍّ حقق شهرة جعلها باب استثمار لتحقيق مكاسب مالية عبر العمل في الإعلان، ولعله يستطيع أن يكسب مزيداً من متابعة السوريين وتعاطفهم بتبرّعٍ من دخله العالي والمتصاعد لأي مشروع إنساني يلامس معاناتهم، وقد قيل إنه تبرّع متعاطفا مع ما حل ببيروت إثر انفجار المرفأ. وليس الموضوع أيضا موضوع ائتلاف معارض، هزيل الأداء والتركيب، ولم يرقَ في فعاليته إلى أدنى درجات القبول والإقناع. إنما الموضوع في وارد لفت الانتباه إلى حالة سورية، باتت شديدة البروز في التعاطي عبر وسائل التواصل بحدّةٍ بالغة أمام أي خلاف في موقف أو رأي، ذاهبةً إلى أقصى الغضب تنفيثاً عن احتقان، تجاه من تراه ينكأ في جرحها المفتوح، حتى وإن لم يكن سبباً ولا مسبّبا، فيما الفاعلون في الأسباب، والمخطّطون الحقيقيون للاستثمار في مأساتهم، سواء عبر أدوارهم الرئيسية أم عبر أدوار وظيفية، يمضون غير آبهين بالمآسي التي سببوها لأجيال، ولا بالعذابات التي خلفوها، ضاربين صفحاً عن كل أخلاقيةٍ أو إنسانيةٍ أمام جوائح شرههم الفتّاكة.