"الوهم الكبير": صراع طبقي بخلفية الحرب

16 مايو 2020
رينوار من أهم مخرجين الأفلام الصامتة (جان كلاودي بيرديت/Getty)
+ الخط -
تدور أحداث فيلم "الوهم الكبير" The Grand Illusion (1937) حول الملازم ماريشال (جان غابين) والنقيب بولديو (بيير فريسناي)، وهما ضابطان في الجيش الفرنسي، يتمُّ اعتقالهما من قبل النقيب الألماني فون روفِنشتاين (إيريك فون ستروهايم)، وتتمُّ قيادتهما إلى معسكرٍ للسجناء. في هذا المعسكر، يبدأ ماريشال وبولديو سريعاً بتكوين صداقات مع باقي أفراد الزنزانة الذين يعملون منذ فترة على حفر نفقٍ أسفل الزنزانة. لتبدأ رحلة محاولة الهرب من السجن ومن الحرب نفسها. هذا الوهم الذي يشغل حياة الجنود، والبشر عامةً.

الفيلم ليس فيلماً حربياً أو فيلم سجون، بقدر ما هو دراسة اجتماعية للشخصيَّات التي يقدمها. لا يوجد فعلياً حبكة أو تشويق في الفيلم، بل مُجرَّد مجموعة من المشاهد للحياة اليومية في معسكرات السجناء التي تعكس آمال وتطلعات الشعب الفرنسي أثناء الحرب العالمية الأولى. خصوصاً وأنه تمّ تصوير الفيلم وعرضه في بدايات الحرب العالمية الثانية.

الواقعية الشعرية هي حركة سينمائية نشأت في بدايات السينما الناطقة في فرنسا، أي في ثلاثينيات القرن الماضي. وهي عبارة عن مجموعة من المخرجين الذين عالجوا الأفلام بنفس الطريقة. لكن بنفس الوقت هؤلاء المخرجون لم يكوّنوا مدرسة سينمائية معاً. في الحقيقة هذه التسمية أتت من المؤرخين لاحقاً، إذ وجدوا أن بعض الأفلام من هذه الحقبة كان لديها نفس النمط من الناحية الفنيّة، وتحدثت عن نفس المواضيع من الناحية الاجتماعية. الهدف الرئيسي من الواقعية الشعرية هي تمثيل الواقع، لكن بشكل خيالي، أي أن الهدف ليس تمثيل الأشياء كما هي في الواقع، ولكن إعطاء الإيحاء بما تمثله هذه الأشياء في الواقع.

نجد بين المخرجين الذي لعبوا دوراً مهماً في تطوير هذه الحركة ريني كلير ومارسيل بانيول وجان فيغو وجوليان دو فيفير وجان رينوار الذي سنتحدث عنه اليوم. من الصعب إعطاء رينوار حقه في بضع كلمات فقط. لكن بالتأكيد سيكون من الضروري الحديث عنه قبل البدء بتحليل فيلم "الوهم الكبير". رينوار كان من أهم المخرجين في حقبة الأفلام الصامتة، ومع البداية والتطور السريع للسينما الناطقة، لم يستطع كثير من الفنانين نقل إبداعهم إلى الشكل الجديد من السينما. لكن رينوار يعتبر من القلة الذين لم يتأقلموا فحسب مع دخول الصوت إلى الأفلام، بل أبدعوا في السينما الناطقة أكثر منها في الصامتة. جان هو ابن بيير-أوغست رينوار، أحد أعلام المدرسة الانطباعية في الرسم، مما أثر في حياة جان وفنّه هو الآخر، وهو أمر واضح في جميع أفلامه، إذْ إنَّ الواقعية الشعرية استفادت من الانطباعية لتقديم نمط مغاير للواقعية.



مثل أغلب الحركات السينمائية، توجد علامات مميزة نستطيع ملاحظتها في جميع أفلام الحركة، وهنا لا نتحدث فقط عن القصة والشخصيات، ولكن أيضاً عن الأسلوب السينمائي لهذه الأفلام. رينوار استفاد من خبرته في السينما الصامتة، لتقديم صور تستطيع التعبير عن الفيلم دون الحاجة للكلام. إحدى التقنيات المستعملة من قبل رينوار، والتي استفاد منها وطورها لاحقاً أورسن ويلز في فيلمه "المواطن كين"، هي عمق الحقل. هذه التقنية تسمح للمخرج بالاستفادة لأقصى حد ممكن من اللقطة، وهو بالضبط ما فعله المخرج في هذا الفيلم. وبما أن الفيلم يتحدث عن مجموعة من الشخصيات التي توجد مع بعضها في نفس المكان، يلعب المخرج هنا على تموضع الشخصيات للاستفادة من الحوار الدائر بينها في نفس الوقت. ويجب ألّا ننسى أن إدارة الحوار كانت أحد أهم التحديات الجديدة في السينما الناطقة. بدلاً من أسلوب اللقطات العكسية البسيط المعتمد في هوليوود في تلك الحقبة. السينما الفرنسية بدأت بتطوير مفهوم عمق الحقل بقيادة رينوار، الذي لم يستفد من هذا التكنيك لإدارة الحوار فحسب، بل أيضاً باستغلال تموضع الشخصيات في المشهد لإيصال فكرة عن الاختلاف الطبقي بين الشخصيات.

وفي الحديث عن الطبقية، رينوار لم يلعب على هذه الموضوع من الناحية البصرية عن عبث. في الواقع، تفاوت المراتب بين شخصيات الفيلم هو أحد أهم المواضيع التي يناقشها، إن لم يكن الأهم. فيلم الوهم الكبير هو عبارة عن دراسة للطبقات الاجتماعية في أوروبا بشكل عام، وفرنسا بشكل خاص أثناء الحرب العالمية الأولى. وذلك عن طريق شخصياته المتنوعة التي تمثل كل منها طبقة اجتماعية مهمة. لنبدأ بعرض مختصر للشخصيات الرئيسية في الفيلم. شخصية ماريشال تمثل الطبقة المتوسطة بكل ما فيها من مزايا وعيوب. بينما شخصية النقيب بولديو تمثل الطبقة الفرنسية الأرستقراطية جنباً إلى جنب مع شخصية النقيب فون روفينشتاين التي تمثل الطبقة الأرستقراطية الألمانية. والطبقة الرابعة المهمة، التي تم تجسيدها عن طريق شخصية روزينتال، هي طبقة المهاجرين بشكل عام، واليهود على وجه التحديد، الذي على الرغم من الغنى الفاحش لعائلته، لا يستطيع أن يكون جزءاً من الطبقة الأرستقراطية بسبب أصوله. بالإضافة إلى عدد من الشخصيات الثانوية التي تكمل هذه اللوحة الفسيفسائية الاجتماعية. ما نراه في الفيلم هو العلاقة بين هذه الشخصيات وتطورها نتيجة ظروف الحرب التي جمعتهم معاً في سجن واحد. الفيلم لا يجسد صورة إيجابية مثالية عن المجتمع الفرنسي أثناء الحرب، بل يجسد صورة واقعية تبعث على التفاؤل على الرغم من النقاط السلبية التي تحملها، إذ نرى في الفيلم علاقة الإخاء التي تتطور بين المساجين، ولكن الفيلم لا ينكر وجود حدود لهذه العلاقة. على سبيل المثال، ماريشال و روزينتال يحاولان معاً إلى الهروب من السجن، ويجدان نفسيهما في وضع حيث يضطر كل منهما للاعتماد على الآخر، وهو الأمر الذي يفترض أن يكون من المسلمات بعد علاقة الصداقة التي تكونت بينهما خلال فترة السجن، لكن كل هذا لا يمنع ماريشال من إخراج عنصريته ضد اليهود خلال خلافه مع روزينتال، مما يوضح أنه على الرغم من تقبل ماريشال لوجود شخص يهودي في حياته بسبب السجن وتكوين صداقة معه، فإن هذا لا يغير فكرته الأساسية عن اليهود وما يمثلونه. مثال آخر عن شخصية النقيب بولديو الذي كان جزءاً من مجموعة رفاق الزنزانة على الرغم من وجوده مع أشخاص أقل رتبة منه على المستوى الاجتماعي والعسكري. ومع ذلك نرى أنه ينسجم مع النقيب روفنشتاين الذي يحارب مع الطرف الآخر من الحرب، مما يذكرنا بأن الطبقة الاجتماعية قد تلعب دوراً في الانسجام بين البشر حتى قبل تشاطر الأفكار والمعتقدات. كل هذه العوامل تسلط الضوء على حدود العلاقة بين هؤلاء الجنود، الذين وإن كانوا على نفس الضفة، لا يزال كل منهم في عالمه الخاص.

بالطبع، هذه الشخصيات، التي تركت أثراً كبيراً في السينما نجحت في خلق عمق وأفق واسع لكل منها بفضل الأداء العظيم للممثلين في الفيلم. جان غابان نجح في خلق شخصية نستطيع التعاطف معها حتى في أسوأ لحظاتها. بيير فرنساي استطاع تقديم توازن بين العجرفة والإنسانية. وبالطبع جوليان كاريت الذي لعب دوراً صغيراً في الفيلم لكنه دور مؤثر للغاية لما أضافه من ناحية كوميدية للفيلم عن طريق شخصية كارتييه. وبالنهاية المخرج والممثل النمساوي إيريك فون ستروهايم الذي قدم شخصية شريرة تجبر المشاهد على التعاطف معها بفضل إظهاره لمشاعر شخصية صادقة من خلال تعابير وجهه وحركاته الجسديّة.
دلالات
المساهمون