في السنوات الأخيرة، ومع موجات الهجرة السورية والشمال أفريقية إلى أوروبا، بدت علاقة الإنسان مع البحر كما لو أنها أحد أبرز دروس القرن الحادي والعشرين. فبشكل ما، كان الهاربون يريدون من الماء أن يكون يابستهم المؤقّتة. وقد يخطر لك ذلك وأنت ترى صورةً بالأسود والأبيض للباخرة الفلسطينية وهي تغادر بيروت عام 1982، وعلى متنها أعضاء "منظّمة التحرير الفلسطينية"، وهي صورة من بين صور كثيرة أخرى التقطها الفنان اللبناني فؤاد الخوري إبان الحرب الأهلية اللبنانية، وجمعتها الفنانة والقيّمة الفلسطينية منال خضر تحت عنوان "الوطن العائم".
تقول خضر في حديثها إلى "العربي الجديد": "اللاجئون اليوم يخرجون إلى وطن عائم أيضاً، من دون أن تكون تحتهم باخرة متينة وآمنة تنقلهم إلى نقطة الأمان، مثل هذه التي تنقل الفدائيّين". تضمّ المجموعة خمسين صورة فقط من بين قرابة عشرة آلاف في أرشيف الخوري المرتبط بالحرب، وهو "المصوّر الوحيد الذي سُمح له بصعود الباخرة الفلسطينية. إنها وثائق ثمينة تُعرَض لأول مرة"، تضيف المتحدّثة.
ستة أشهر هي المدّة التي استغرقها اختيار مجموعة صور المعرض المقام حالياً في "دار النمر للفن والثقافة" ببيروت وحتى 27 سبتمبر/ أيلول المقبل، وتضم أيضاً مجموعة من أعمال الفوتوغرافي الأميركي جيرمي بيكوك الذي رافق الخوري بين عامي 1982 و1995، غير أن القيّمة تترك الصور من دون تحديد أيّ الاثنين التقطها. خرجت "المنظّمة" من بيروت في 30 أغسطس/ آب 1982، وانتهت إلى التوقيع على اتفاقيات أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية عام 1993. تحت هذا الخيط العريض، تتبع خضر حركة الخروج والرجوع، مشيرة إلى أنها تسائل مفهوم العودة من خلال قصص هذه اللقطات التي لم ترتّبها بشكل اعتباطي، بل وضعتها ضمن خطة سردية تجعل كل واحدة منها ترتبط بالتي تليها، فتبدو العودة بذلك مركّبة، فهي عودة القيّمة نفسها إلى الحرب وإلى لحظة 1982، وعودة الفوتوغرافي إلى أرشيفه، ثم العودة بمعناها الفلسطيني.
يتشعّب موضوع "الوطن العائم" إلى ثيمات عدّة: المنظّمة أثناء وجودها في بيروت، والصور النمطية للفلسطينيّين، وكيف ساهموا في تكريسها، ولحظة الخروج، ومعنى العودة - وإن كانت ناقصة، أي إنها تستكشف بمعنى ما مرحلة التحوُّل من الخروج من لبنان كمقاومة، ثم العودة إلى رام الله كسلطة.
نعرف أن للخوري علاقة خاصة بالحرب، فهو لا يصوّر التدمير ولا يفتش عن الفظائع كما يفعل مصوّرو الحروب عادةً، بل إن عدسته تخشى الاقتراب من ذلك، فيذهب في الطريق المعاكس، ملتقطاً لحظات الحياة خلال الحرب. لهذا السبب، ربما، تعطيك الصورة التي يظهر فيها رجلان على متن السفينة يديران ظهرهما وينظران إلى البحر شعوراً مسالماً... الرجلان يتحدّثان، ضوء نهار أغسطس القوي يلعب على سطح البحر، ثمّة كراسٍ للاسترخاء تحت الشمس منتشرة حولهما، وسفينة أخرى بعيدة. ولولا أننا نعرف القصّة خلف هذه الصورة، لبدت لقطة عادية لصديقين في رحلة.
في أكثر من مشروع لها، رأينا خضر وهي تلحّ على مسألة صورة الفلسطينيّين ودورهم في صناعتها. فعلت ذلك في "ميونخ 72" مع ربيع مروة، وها هي تعيد الكرّة. توضح لـ"العربي الجديد" أن صور الفلسطينيّين مليئة بالرموز: "الكلاشنكوف، أبو عمار، الكوفيّة، الخيمة... إنها تمثيلات نشرها الغرب وتبنّيناها نحن عن أنفسنا، لكن اليوم اختفت سلطة هذه الرموز، وحلّت محلّها الحياة اليومية كرمز للفلسطيني، واستثنائية فلسطين في عالميتها اليوم".
خضر مسرحية وممثّلة سينما وكاتبة، وهي الآن قيّمة فنية أيضاً. فما معنى أن تكون قيّماً حين تريد بناء سردية من هذا النوع تطرح أسئلة عن العودة والرموز والتمثيل والتنميط؟ تجيب: "يختلف الأمر حين تتبنّى تقديم عمل شخص آخر، كقيّم أنت تضيف طبقة جديدة للعمل من التفسير والتأويل والمعنى، أن تتبادل مع الفنّان الأدوار أحياناً، وتصغي جيّداً لما يمكن أن يقول العمل حين يُعرَض على هذا النحو".
يضمّ المعرض أيضاً تجهيزاً بعنوان "أجمل يوم"، ويضمّ صوراً مختلفة عن تلك التي التقطها الخوري أثناء الحرب، (أعادته إليها الموسيقى) وقصيدة لـ إيتيل عدنان، وبدا الأمر كما لو أنه عاد إلى تلك السنوات. أصبحت الصور تلتئم مع بعضها ومع شعر إيتيل، ليكتمل التجهيز متعدّد الشاشات، كما لو أنه ثلاثة مشاهد مسرحية تحكي عدّة قصص في وقت واحد.