"الموسوعة التونسية": إحصاء المعارف في حدود الجغرافيا

29 ديسمبر 2019
من احتفالات الختان، سيدي سحاب بالقيروان، 2018 (ياسين قايدي)
+ الخط -

بُدئ العملُ على "الموسوعة التونسية" (2014) منذ نهاية الثمانينيات من القرن الماضي. ولا ندري إنْ كان ثمّةَ من علاقةٍ مباشرة بين انبعاث هذا العمل العلمي وبين التغيير السياسي الذي حَصل في تونس، عقبَ استيلاء زين العابدين بن عليّ على السلطة سنة 1987. ولكن الثابتَ أنَّ نظامَه حاول، في السنوات الأولى من الحُكم، الإيهامَ بانفتاحه على المُثقَّفين وتشجيعهم على التفكير والتعبير. وهو ما قد يُفسّر وفرةَ الإنتاج الجامعي آنذاك.

ومن بين النصوص التي ظهرت في الفترة الفاصلة بين 1990 و1995، خمسُ كُرّاساتٍ تجريبية في إطار مشروع "دائرة المعارف التونسية"، والتي أشرَفت على إصدارها "بَيتُ الحكمة"، وهي مُؤسّسة علميّة ترعى الأعمال البحثية والترجمة وتحقيق المخطوطات التي لها صلةٌ بالثقافة التونسيّة. وهي تُقابل الأكاديميات العلميّة الرسميّة في البُلدان الأوروبية، ولا تبعد عن "مجامع اللغة" في أقطارنا العربية. وقد شكَّلت هذه الكرّاسات اللبنة الأولى لمرجعٍ وطني "يَتَّسع لكل شيءٍ يخصُّ تونسَ ويَنطوي على أسماء الأفراد والبلدان والمواقع، على التاريخ والجغرافيا (...) وكلّ المدن والجهات والآثار الأدبية والفنّية"، حسب عبارات التقديم.

وقد تَواصل العمل على تطوير هذه الموسوعة وإكمالها طيلة رُبع قرن، بعدَ أن بُعثت لأجْلها "لجنةٌ استشاريّةٌ مُوَسَّعة" وضعت تَصوُّراً منهجياً متكاملاً يصوغ المداخل حسب المنهج الموسوعي، بمعناه الدقيق، ويجعل موضوعاتها أكثرَ ترابطاً ونظْمَهَا أدقَّ. واستمرّ العمل في ظل رئاسات هذا المجمع العلمي المتعاقبَة: فقد تقرَّرت الفكرة في عهد عز الدين باش شاوش، وأُنجزتْ بإشراف عالم الاجتماع عبد الوهاب بوحديبة والمؤرّخ هشام جعيّط وأخيراً باحث الإسلاميات عبد المجيد الشرفي. وقد حَرص جميعُهم على النهوض بالعمل ومواصلته رغم فترات التردّد التي عرفها المشروع ولا سيما إبَّان "الثورة".

وصدر أخيراً هذا العمل كاملاً ضمن جُزأين ضخميْن، يتضمّنان عَشرات المداخل متفاوتة الأحجام، رُتِّبت حسب التسلسل الألفبائي والموضوعي، بعد أن تَجنَّد لتحريرها عشراتُ الباحثين الأخصائيّين إلى جانب الفنّيين والمُصحّحين الذين التزموا بمراجعة المواد وتدقيقها حتى تخرج في أقرب صورةٍ إلى الدقّة.

كما تضمّنت "الموسوعة"، في صيغتها الورقية، عَدداً كبيراً من الصور النادرة والخرائط والرسوم التوضيحية التي ترافق المقالات وتثريها، وهو ما يؤكّد المجهود الهائل الذي بُذِلَ في جَمعها، لا سيما وأنَّ معيار اختيار الشخصيات أن لا تكون على قَيد الحياة، ممّا يجعل الحصول على الوثائق القديمة صعباً. وقد توفّرت بذلك للباحثين والقرَّاء ما يتطلّعون إليه من المعلومات الأولية. ولهم، إن شاؤوا التوسّع، أن يطالعوا قائمة المصادر والمراجع الجادة التي تُختَم بها المقالات.

ويجدر التنويه إلى أنَّ صدور هذا العَمل الضخم في صيغته الورقية يهدف إلى إغلاق مرحلةٍ في صياغة الموسوعات وتدشين أسلوب جديد جريء فيها. فقد فُرض هذا "التدوين" للانتهاء من الموسوعات الورقيّة وإنشاء موقع رقميٍّ لها يجعل منها مدونةً منفتحةً، قابلة للتحيين والتجديد باستمرار. فصارت، بِفضل تعدّد الوسائط الاجتماعية أكثرَ تداولاً وأيسرَ منالاً، قد يشارك فيها القرّاء تعديلاً وتعميقاً عبر التعليقات، وذلك في عصر غَدَت فيه المعلومات الخاصّة بموضوعٍ ما انفجاريّة بالضرورة، أيْ تتوسّع باطراد، ولم يعد بالإمكان حصرها في كتابٍ محدودٍ، مُنتَهٍ ومغلق.

ويستجيب هذا التوجُّهُ في اعتماد الفضاء الرقمي لما شهدته دوائر المعارف العالَمية في عصرنا، مثل موسوعة "ويكيبيديا" التي احتلّت، على علّاتها، الرتبة الأولى في دنيا المعلومات وصارت في محرّكات البحث مَصدر المعرفة الرئيس. ولا ننسى الدعم الدي حظيت به من قِبَل مفكّر كبير مثل ميشال سير، بعد أن غيّر هذا الموقعُ طبيعة المعرفة ويَسَّر النفاذ إليها. والملاحظ أنَّ أكبر الموسوعات والمعاجم في الغرب مثل: Universalis وLarous صارت تَستثمر في الشبكة الرقمية وتستعمل أدواتها الحديثة ومحرّكاتها الناجعة.

وبالرغم من القيمة المعرفية للموسوعة التي لا تُجحد، فإنه يحقُّ التساؤل عن بعض المصادرات المنهجية التي حَكمت اختيار المواد وتنظيمها. إذ لا بدّ من التذكير أنَّ هذا العمل، بحكم طبيعته، وطني مَحَليٌّ، يقتصر على المفاهيم والشخصيات التي تهمُّ تونس فحسب. ويطرحُ هذا التحديد تَحديّاً كبيراً للعديد من الشخصيات التاريخية التي لا يمكن إثبات انتمائها إلى تونس فقط، لأنَّ الأخيرة لم تكن موجودة وقتها مثل: ابن خلدون وابن منظور وبيرم التونسي ويوغرطة، والتي تشاركُ الافتخارَ بها عِدةُ بلدان مثل مِصر والجزائر.

وهذا الأمر لا ينطبق على الأعلام القدامى فحسب، الذين عاشوا حين لم يكن لتونس حدودُها الحالية، ولكنه ينطبق أيضاً على المعاصرين منهم، والذين تنوَّعت مصادر تكوينهم، بين المشرق والمغرب واستقوا إنتاجَهم الفكريّ من مواردَ متنوّعة، سَداها نصوصٌ عالميّة لا يُعرف لها انتماءٌ. فلو أخذنا على سبيل المثال شخصيةَ الحبيب بورقيبة رئيس تونس الأسبق، الذي خَصّصت له هذه الموسوعة مدخلاً يمتدّ على عشر صَفَحات، هل يمكن فصل تكوينه المحلي عن المصادر الغربية؟ ونفس الشيء يُقال عن زبير التركي ومَحمود المسعدي وعلي الدوعاجي... والقائمة طويلة.

كلّ هؤلاء تونسيون بالمنشأ، كَونيون بالثقافة، إنسانيون بالتعليم والإشعاع، ناضلوا طيلة مسيراتهم الفكرية من أجل الانفتاح على الآخر وبناء ثقافة عقلانية، لا تَحدُّها الحدود ولا تنغلق ضمن القيود القطرية أو الأيديولوجية، وهي بطبيعتها ضيّقَةٌ مُميتة.

وقد يُلمسُ في الأهداف الضمنية لهذه "الموسوعة" السعيُ إلى تَقوية الشعور الوطني وتأجيج عاطفته، في زمن خَبا فيه هذا الإحساس نسبياً، بسبب انفتاح الثقافات بعضها على بعضٍ وانهيار الحدود الجغرافية، بعدَ أن فرضت وسائل الاتصال الحديثة نمطًا انفجارياً من المعارف. وهذا ما يؤكده نصُّ "التقديم" الذي صُدِّرَت به الموسوعة حيث يَقول صراحة: "سَتُغذّي (دائرة المعارف هذه) التشوُّفَ المعرفي كما الشعورَ الوطنيَّ دونَمَا شَكٍّ".

وقد يرتبط هذا العمل، ضمنيّاً، بمفهوم "الهوية الوطنية" الذي يجعل من المعارف والخبرات والاسهامات الإبداعية مَادةً "تشكل الهوية الثقافية والخصوصيّة الوطنية"، مع ما في هذيْن المفهومين من الغموض الكبير، فضلاً عن صعوبة إضافة المعرفة إليهما. فهي تستعصي، في جوهرها، عن التحديد الجغرافي أو السياسي. وقد يتحوّل هذان المفهومان إلى شوفينية خَطِرة تغذِّي الانغلاق على الذات والافتخار باستثنائها، استثناءٍ غالباً ما يكون موهوماً ومُبالغاً فيه.

ومع ذلك، نَقرأ "الموسوعة التونسيّة" كما نقرأ قصَّة مُنَجَّمةً مشوّقة، فصولُها متدخلة وإن بَدت مُتباعدةً. تحيلُ أجزاؤها المتتالية إلى وَحدة عضويّة عميقة يربطها خَيطٌ ناظمٌ لها وهو الانتماء إلى الرقعة الجغرافية التونسية، بتاريخها وثقافتها، مع أنَّ المعارفَ التي امتدّت في أرضها والأعلام الذين بَزغوا في سمائها تاقوا إلى كسر الحدود والانفتاح على عوالم المعرفة الرحبة. ابن خلدون من أبلغ الأمثلة.

المساهمون