لك أن تنظر أينما أردت، وأن تختار رؤية الواقع الذي تريد أن تراه. بهذه الطريقة، أرادت المخرجة الإنجليزية كاتي ميتشيل للجمهور أن ينظر إلى عملها الجديد، "المنطقة المحرّمة"، الذي يجري عرضه على مسرح "شاوبونه" في برلين.
تتوزع مجموعة من المصورين بكاميراتهم على الخشبة، ويتجوّلون وهم يصورون العرض الممتد نحو 75 دقيقة، بحيث يُعرض ما يتم تصويره مباشرة على شاشة عملاقة في الأعلى، ويبقى المتفرج أمام خيارين: إما أن يحاول جاهداً أن يرى الممثلين وهم يؤدّون أدوارهم على المسرح، أو أن يستريح ويشاهد الشاشة التي تعرض مباشرة المشاهد التي يعيق الديكور رؤيتها بوضوح.
ولكن ما هو الشيء الذي لا نستطيع أن نراه مباشرة، ونحتاج إلى الشاشات لمشاهدته؟ إنها الحرب! لك أن تعيشها من دون أن تراها، ولك أن تضعها وراء الشاشات وترى كل ما تريد وما تريد لك الشاشة أن ترى.
يعود الكاتب المسرحي دنكان مكميلان إلى عام 1915، عندما يطوّر الكيميائي الألماني فريتز هابر غازات سامة ويضعها في خدمة دولته، حينها، بروسيا. ينشب شجار مع زوجته، الكيميائية أيضاً، كلارا إيمرفاهر، حول شرعية ما يقوم به الزوج.
يحتدّ النقاش في منزل الزوجين إلى أن تنتحر المرأة مستخدمةً مسدّس زوجها. يستوحي مكميلان نص "المنطقة المحرّمة" من مجموعة نصوص لكاتبات ومفكرات مثل سيمون دو بوفوار، وحنا آرنت، وماري بوردن، وإيما غولدمان، وفرجينيا وولف، ليناقش أخلاقيات الحرب ودور الرجال والنساء في الدمار.
تنتقل أحداث المسرحية بين عامي 1915 و1949، وتتناول حياة ثلاث نساء. الأولى هي الكيميائية كلارا إيمرفاهر، التي تنتحر بعد أن تفشل بإقناع زوجها بالتخلي عن فاشيته. الثانية هي كلير إيمرفاهر حفيدة كلارا، وهي الأخرى كيميائية كرّست نفسها لغايات العلم السلمية.
تعمل كلير في مستشفى في شيكاغو، حيث يقوم المختبر الذي تعمل فيه باستخلاص الترياق المضاد للغاز السام المستخدم كسلاح كيماوي شامل. ولكن، وفي عام 1949، يتوقف دعم المشروع بقرار سياسي، الأمر الذي يؤدي بالممرضة إلى الانتحار في أحد الحمامات العمومية.
المرأة الثالثة هي زميلة الحفيدة في المختبر والتي تجسد ماري بوردن، الشاعرة والممرضة خلال الحرب العالمية الأولى، والتي وضعت نصاً عن تجربتها في الحرب في فرنسا بعنوان "المنطقة المحرّمة"، الذي حملت المسرحية اسمه.
تتداخل الأصوات النسائية في العرض وتتكلم الشخصيات الثلاث في مونولجات مقتبسة من نصوص وضعتها كاتبات ومفكرات معروفات. الأدوار التي قامت بها هذه الشخصيات في الواقع وعلى الخشبة، كانت محاولات أخلاقية لممانعة عنف الرجال الذي يبلغ ذروته في الحرب. يرفض الزوج الإنصات إلى زوجته ويمضي إلى نداء أبواق الحرب التي أعلنتها دولته، بينما يقوم جندي باغتصاب الممرضة في القطار. تنتهي المسرحية بسؤال يائس: كيف يمكن لي كامرأة أن أوقف الحرب؟
يتجلى الانتحار كفعل احتجاجي بلا جدوى، فهو، من جهة، رفض صريح لما يحدث، ومن جهة أخرى انسحاب عاجز. تنتحر الحفيدة في مرحاض صغير، وتنتحر الجدة في حديقة بيتها مطلقةً النار على رأسها لتقع في بركة المنزل ومن حولها الأعشاب، في ميتة تشبه موت أوفيليا.
المسرحية عن شخصيات نسائية. أما الرجل، فتبدأ المسرحية به وهو يجهز نفسه للالتحاق بالجيش. يدير ظهره إلى الجمهور، بينما تقوم الكاميرا بعرض وجهه على الشاشة الكبيرة. تطلب منّا الراوية أن ننظر إلى هذا الشاب الذي سيموت بعد قليل، وهو يعرف أنه سيموت.
يستمر الصوت بتحدينا ويسأل: "انظروا إلى هذا الرجل، انظروا. اخرجوا من قبوركم أيها الفلاسفة، ويا من أسسوا الكنائس، وأنتم من تكلمتم عن الله منذ عشرات آلاف السنين". يمضي الشاب من منزله بلباسه العسكري، ويركب القطار متجهاً إلى مصيره.