صدرت رواية "المغتربون" للكاتب الألماني ف. ج. زيبالد (1944-2001) مؤخراً عن دار "التنوير" بترجمة أماني لازار، ويبدو أن الكتاب لم ينقل عن اللغة الأصلية التي كُتب بها.
نُشر العمل لأول مرة سنة 1992، وهو أول رواية لـ زيبالد تُترجم إلى الإنكليزية سنة 1996. وفيها يتقاطع الكاتب مع سيرة أربعة ألمان هاجروا إلى العيش في إنكلترا وأميركا، وهؤلاء هم: هنري سلوين وبول بيرايتر وآمبروز أدلفارت وماكس فربر، حيث تلقى هذه الشخصيات المصير نفسه، أو تقترب منه، وهو الانتحار؛ فمنهم من يتمدّد على سكة القطار أو يطلق على نفسه الرصاص أو يلتحق بإرادته بمصحّة الأمراض النفسية.
كان زيبالد نفسه أحد المهاجرين الألمان الذين عاشوا بين بريطانيا والنرويج، ويبدو في "المغتربون" كما لو أنه وزّع نفسه وذكرياته وواقعه وخياله وأحلامه على أربع شخصيات، وقد وصفته سوزان سونتاغ بعد قراءتها بأنه "أستاذ معاصر في أدب الاضطراب العقلي ورثاء الذات".
لم تبالغ سونتاغ، فهذه هي منطقة اشتغال الروائي الألماني، الذي يعتبر أبرز كتّاب ما بعد الحرب في بلاده، فأعماله تنقيب مستمر في فعل الذاكرة ومحاولات التئام ضحايا العنف والنبذ، ومن كانوا عُرضة لعنف الآخرين واحتقارهم، حيث يدرس زيبالد الكيفية التي يتغير الأداء النفسي والعاطفي لهذه الشخصيات المهشّمة إثر تعرّضها للطرد والتروما، أو شعورها بالعار بعد أن كانت موضوعاً للكراهية والعنصرية.
تنتمي رواية "المغتربون" إلى عدة أعمال كتبها زبالد وتحتوي على ما يُظهر الأحداث حقيقية وأنها مجموعة من الوقائع التي يعيد الكاتب روايتها فقط، ويستخدم أيضاً صوراً بالأبيض والأسود، من دون أن يحدّد إلى ماذا تشير أو إلى من تعود هذه الصور.
تتضمّن الرواية أربعة فصول كل واحد مُعنون باسم شخصية مع عبارة تخصّها، الفصل الأول "د.هنري سلوين: من كتبت لهم النجاة أهلكتهم الذاكرة"، والثاني "بول بيرايتر: هناك غشاوة ليس في وسع عين أن تبدّدها"، و"آمبروز أدلفارت: ما حقل الذرة خاصتي إلا حصاد الدموع" وأخيراً "ماكس فربر: يأتون عند حلول الظلام للبحث عن الحياة".
لكن هناك أحداثٌ لا بد من التوقف عندها، مثل الانتحار النفسي لـ آمبروز أدلفارت، هذه الشخصية المُعذّبة بذاكرتها الفوتوغرافية التراجيدية والتي يسعى إلى إلغائها عبر صعقها بجلسات الكهرباء، كأنه يريد إبادة ذاكرته بهذه الوسيلة.
في فصل "ماكس فربر" نقرأ حكاية رسام ألماني لاجئ، ويحتوي الفصل على خلاصة الألم والعلاقة المركبة مع الماضي، حين يدرك الفنان أن المعاناة الذهنية لا حد لها، حتى إن توقّفت أسباب الألم الفعلية.
وفي الحقيقة، إن هذه الرواية كلها عن جيل لم يعش الهولوكوست والعار النازي لكنه جاء بعده، مثل الكاتب نفسه، لكن أيضاً جيل ما بعد الواقعة الرهيبة، الذي حمل الشعور بالإدانة والخوف والالتفات المستمر إلى ألم الآخرين، وربما يكون في المصائر التراجيدية للشخصيات خلاصة روح العمل التي تبحث بلا جدوى عن تلك اللحظة التي يتوقّف فيها الألم.