"المصالحة"... مناورة سياسية في مصر

12 ديسمبر 2016
+ الخط -
لا يكاد يختفي حديث المصالحة في مصر عن المشهد السياسي، حتى يعود مرة أخرى، إلى الدرجة التي فقدت فيها كلمة المصالحة معناها، وأصبح موضوعها مجالاً للتندّر والسخرية. وقد وصل الأمر إلى استخدام الأطراف المتخاصمة مسألة المصالحة مناورةً وبالون اختبار لقياس رد فعل أنصاره على المسألة، ومعرفة إمكانية قبولهم لها، وتحت أية شروط. يستوي هنا النظام بإعلامه ورجاله، وجماعة الإخوان المسلمين بقياداتها الداخلية والخارجية. وذلك على نحو ما حدث قبل أسابيع قليلة، حين زاد الحديث عن المصالحة، ونُشرت تقارير صحافية عن وساطات عربية من أجل إنجازها، وانتهى الأمر إلى تبرؤ كل طرفٍ من المسألة، ومحاولة أخذ مسافةٍ منها، وعودة الجميع إلى المربع الأول.
وحقيقة الأمر، لا يبدو أن أحداً من الأطراف السياسية في مصر، ولا خارجها، حريص على مسألة المصالحة وإنجازها، لأسباب تتعلق بحسابات ومصالح كل طرف. ويصبح من السذاجة اختزال مسألة المصالحة في "صفقةٍ" تُعقد بين النظام وجماعة الإخوان، ذلك أن ما حدث طوال سني ما بعد الثورة المصرية أوجد خلافاتٍ وانقسامات عميقة بين كل الفصائل السياسية، وذلك قبل أن يصل الصراع إلى ذروته في لحظة الانقلاب في صيف 2013، وما تلا ذلك من مذابح كشفت حجم الهوّة السحقية التي انزلق إليها المجتمع ذاته، وليس فقط قواه السياسية، وأحدثت جروحاً عميقة، لن يداويها حديث متهافت عن المصالحة هنا وهناك. ولا يمكن بحال قبول جلوس الطرفين المتخاصمين على طاولة التصالح أو التفاوض على ما بينهما، من دون أن يؤدي ذلك إلى انقساماتٍ وارتداداتٍ على الجبهات الأخرى التي أُضيرت من الطرفين، خصوصاً شباب الثورة الذين دفعوا، ولا يزالون، ثمناً باهظاً للأنانية السياسية للعسكر و"الإخوان"، وحساباتهما الضيقة.
وبحساباتٍ واقعية، لا يوجد لدى النظام الحالي أي نية أو رغبة في إنجاز مصالحة حقيقية، يمكنها تهدئة الأوضاع في مصر، لأسباب كثيرة، ليس أقلها، أنه ابتداءً نظام سلطوي ذو طبيعة فاشية، تقوم على الإقصاء والتخلص من منافسيه وخصومه، ولا توجد في قاموسه مفردات المصالحة والتفاوض والاتفاق. وهو، على الأقل حتى الآن، لا يشعر بالحاجة لأية مصالحةٍ، على الرغم من مأزقه الاقتصادي والاجتماعي، والذي لا يبدو أنه يكترث كثيراً له. ثانياً، جاء هذا النظام إلى السلطة على أرضية التخلص من جماعة الإخوان المسلمين، وشحن أنصاره،
عبر أبواقه الإعلامية، وعبّأهم حول هذه المسألة التي يعتبرونها انتصاراً وإنجازاً تاريخياً للجنرال، بل وربما هي إنجازه الوحيد، في ظل إخفاقاته في بقية الملفات السياسية والاقتصادية والأمنية. وبغضّ النظر عن صحة ذلك، هل يُعقل أن يتنازل النظام عن إنجازه الوحيد لخصمه؟ ثالثاً، لا يُتخيّل أن يُقدم الجنرال عبد الفتاح السيسي على أي نوعٍ من المصالحة، يكون هو ثمن إنجازها، أو كبش فدائها، فالرجل حرق خلفه كل المراكب التي جاءت به إلى السلطة. وأية مصالحة من دون خروج الرجل من السلطة لن يكون لها أي معني، خصوصاً وأنه جزءٌ أصيل من الأزمة، ومما وصلت إليه طوال السنوات الثلاث الماضية. حتى وإن قبِل "الإخوان" ببقاء الرجل، فذلك لا يمكن اعتباره مصالحة بقدر ما هو صفقة سياسية بين الطرفين، تُرفع فيها الضغوط عن الجماعة، في مقابل الاعتراف بالرجل. وحينها قد تخسر الجماعة جزءاً كبيراً من أعضائها وجمهورها، خصوصاً الذين يحملون مظالم شخصية تجاه الرجل، ودفعوا دماءهم ثمناً لمواقف الجماعة.
على الطرف الآخر، لا يبدو أن جماعة الإخوان المسلمين قادرة على السير، بثقةٍ، في مسألة التصالح مع النظام الحالي، على الرغم من براغماتية الجماعة المعروفة. وتبدو قيادات الجماعة مضطربة ومهزوزة وخائفة من إمكانية الإقدام على ذلك، ما يفسّر تراجع قياداتها، وتهربهم من التصريحات التي تُنسب إليهم بشأن مسألة المصالحة بشكل بات مكرّراً. فمن جهةٍ أولى، لا تملك الجماعة أوراق ضغطٍ حقيقيةٍ، يمكنها إجبار النظام على المصالحة، أو حتى التصالح وعقد صفقةٍ سياسية معه. فالجماعة منقسمةٌ على ذاتها داخلياً وخارجياً، ولا توجد فيها الآن قيادة سياسية حقيقية، يمكنها اتخاذ قرار تاريخي يتعلق بالمصالحة، من دون التخوف من تبعات ذلك عليها وعلى الجماعة. فمن يدير "الإخوان" حالياً هم مجموعة من القيادات التنظيمية الكلاسيكية التي لا تملك الجرأة على اتخاذ قرارٍ سياسيٍّ بحجم التفاوض مع النظام. وهي تمارس لعبة "عضّ الأصابع" مع النظام، من دون امتلاك رؤية سياسية حقيقية. ومن جهةٍ ثانية، تعتقد هذه القيادات، خطأ، أن النظام الحالي سوف يرضخ، آجلا أو عاجلاً، لشروطها، نتيجة تراجع شعبيته، تحت وطأة أزمته الاقتصادية الاجتماعية، وهي تراهن على عامل الزمن، كما تفعل دوماً، في أن ينصفها، ويدفع النظام إلى القبول بها أمراً واقعاً، وهي هنا لا تكترث كثيراً بالثمن الذي يدفعه أعضاؤها الذين باتوا ضحايا لمعركتها مع النظام. كما أنها تراهن على زيادة الضغوط الإقليمية على النظام من أجل إعادة التفكير في دمجها. كما أنها تراهن، خطأ، على خلافات عبد الفتاح السيسي مع بعض حلفائه الإقليميين، وكأنها لا تتعلم من دروس التاريخ. ومن جهةٍ أخيرة، ثبت فشل الرهان على راديكالية الشباب، ولجوء بعضهم إلى العنف، من أجل إجبار النظام على التفاوض. فهذا النظام يتغذّى على مسألة العنف من أجل تقديم نفسه ضحية للداخل والخارج، وهو لن يضيره أن يضحّي ببعضٍ من جنوده، من أجل بقائه في السلطة، وقد رأينا ذلك في حالات أخرى مشابهة، في الجزائر وسورية وتونس واليمن.
لا تزال المصالحة في مصر، إذا، بعيدة وغير متوقعة في الأمد المنظور، وذلك بعد أن تحوّلت إلى مادة استهلاكية، وأداة للمناورة يستخدمها كل طرفٍ للتأثير على الطرف الآخر، وستظل الأزمة السياسية مجّمدة عند نقطة الصفر التي كانت عليها قبل ثلاث سنوات ونصف السنة.

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".