استفادت دراسات التاريخ من التوجه إلى العلوم الإنسانية الرقمية مثلها مثل باقي التخصصات التقليدية من فلسفة ولغويات وأدب وآثار وموسيقى وفنون وغيرها، وسمح استخدام الإمكانيات التقنية اليوم للمؤرخين والأكاديميين بالدخول في مشاريع تجمع الأكاديميا والوثائق والأرشيف التاريخي بالفن والتجارب البصرية الافتراضية.
في هذا السياق يقع موقع "المدق" الذي أسسه الأكاديمي المصري شهاب فخري إسماعيل، الباحث الذي تركز دراساته على تقاطعات التاريخ العمراني في مصر مع تاريخ العلم والتكنولوجيا والطب وتاريخ الاستعمار، والذي ألقى حوله محاضرة افتراضية اليوم نظمها "برنامج العلوم الإنسانية الرقمية" التابع لمكتبات الجامعة الأميركية بالقاهرة و"تكنولوجيا التعلم"، ضمن سلسلة محاضرات على الإنترنت لاستكشاف وتعزيز مشاريع العلوم الإنسانية الرقمية في مصر والبلاد العربية.
قدم المحاضر نبذة عن فكرة وأرشيف موقع التاريخ الرقمي "المدق: جولة افتراضية في تاريخ القاهرة"، الذي جاءت فكرته بحسب إسماعيل من "افتراض مبدئي بأن المعرفة حق أصيل"، ثم تبلورت كنتاج لمؤثرات كثيرة، منها ثورة 25 يناير، ففي رأي إسماعيل كانت إحدى الأسئلة الأساسية التي نتجت عن لحظة 2011، ما دور المعرفة في لحظات يثور فيها المجتمع ويحاول أن ينسلخ عن الماضي؟ وما هي شروط وظروف إنتاج هذه المعرفة؟
من خريطة الحملة الفرنسية للقاهرة عام 1809 وحتى خريطة القاهرة عام 1920، يأخذ موقع "المدق" الزائر في جولة افتراضية في تاريخ القاهرة، ويتعرف على نصوص وخرائط وصور ومواد فنية، ليوفر بذلك فرصة رقمية للمتلقي يعيد فيها اكتشاف الأرشيف البصري والنصي للمدينة كمصادر للكتابة التاريخية.
تظهر الخرائط التاريخية في "المدق" مثبتة جغرافيًّا فوق صور القمر الصناعي، وسنجد قائمة خرائط هي "الحملة الفرنسية 1809"، وخريطة 1874، و1893، و1897، و1904 والمعنونة "تسمية الشوارع".
كما يحتوي على سلسلة من المقالات تقدم أبحاث المحاضر التي أجراها حول تاريخ القاهرة الحديث، وبخاصة فترة الاستعمار البريطاني، ويعرض أعمالاً فنية وأدبية يقوم بها فنانون وكُتَّاب من خلفيات متعددة، وحتى اليوم يسعى "المدق" من خلال صفحته على "فيسبوك" إلى متابعة العلاقة بين تاريخ القاهرة وواقعها فيعود إلى أحداث انتشار الطاعون والكوليرا بالوثائق النادرة والصور القديمة والحديثة.
يتيح الموقع التعرف علی جغرافية المدينة والقوی التي ساهمت في نموها منذ منتصف القرن التاسع عشر، ودور الاستثمار العقاري والصحة العامة في تشكيل القاهرة في تلك الفترة، كما يكشف عن علاقة المهندسين وشبكات البنية التحتية والخرائط والاستعمار بهذه التحولات، ويحكي كيف تفاعل القاهريون مع مدينة متغيرة.
قام إسماعيل بتوضيح الطريقة التي جرى بها تصميم الأرشيف الإلكتروني، كما ناقش إمكانات توسيعه وتعزيز أدوات البحث الرقمي ونشر المعرفة التاريخية، حيث يضم إلى جانب الخرائط صوراً فوتوغرافية للحظات من تاريخ المدينة فنجد مثلاً: صوراً من كتاب "إدوارد سبلتيريني: فوتوغرافيا رائد الطيران بالمنطاد"، وصوراً من أرشيف معهد مينابوليس بعنوان باسكال سيباه (1823-1886).
كذك يتعامل الموقع مع تسجيلات فيديو على موقع "فيمو" كل واحد منها يدور حول منطقة من مناطق القاهرة وتطورها لتشكل بمجموعها بانوراما للتاريخ العمراني للأحياء كل واحد كجزئية واحدة، ثم تكتمل صورة توسعات المدينة وتشعباتها وتبدلاتها أيضاً.
يذكر أن إسماعيل يعمل حالياً باحثاً في "معهد ماكس بلانك لتاريخ العلم" في برلين، وقد حصل على رسالة الدكتوراه من قسم التاريخ في جامعة كولومبيا بنيويورك عام 2017.