علاوةً على النقد الشديد الذي يوجّه لـ "الكزرة"، من طرف خبراء التنمية، فإن غالبية السكّان يواجهونها بتنديدات، يعزّزها إعلان الجهات الرسمية السعي الدائم في التغلّب عليها ضمن أجل زمنيٍ قريب، ينتهي في أكثر الأحوال دون حدوث أيِّ تغيير حقيقي من الواقع القائم.
تُعرف "الكزرة" في السياق الموريتاني بأنها التملك الفعليّ للأرض بدون إذنٍ من السلطات، يضفي عليه صفة الشرعية القانونية، وقد اتّسم مجال "الكزرة" الجغرافي، نتيجة ذلك التملّك غير القانوني، باكتظاظٍ سكانيّ هائل تجلّى في التداخل الشديد بين مساكن الصفيح الهشّة التي تتكوّن منها. وهو ما جعلها من حيث السمات الشكلية العامة شبيهةً بأحياء الصفيح الشعبية التي تنشأ على هوامش المدن الكبيرة، لكنها مع ذلك تختلف عن تلك الأحياء في ما يتعلقّ بسياق النشأة وطبيعتها وأسلوب النشاط على المستوى العام.
منذ السبعينات، ونتيجة اكتظاظ مجال السكن المركزي، بدأت "الكزرة" تنشأ في أطراف مدينة نواكشوط، مُستوعبةً السكان القادمين من الريف الداخلي بعد أن اضطرّهم الجفاف الشديد للنزوح إلى المدينة. لم تكن الأطراف التي سكن فيها هؤلاء القادمون الجدد مأهولةً من قبل بالسكان، وذلك ما جعلها بالإضافة إلى قربها من مركز المدينة الحيّ، مكانًا مناسبًا للسكن في مثل تلك الظروف الصعبة.
تقول الدكتورة الفرنسية أرميل شوبلين المختصّة في الجغرافيا الحضرية للعاصمة نواكشوط: "لم يعد بالإمكان اعتبار نواكشوط مجرّد تجمعٍ للمتحضّرين الجدد فهو مأهول اليوم بسكان المدينة الذين أقاموا نظامًا أصيلًا للراحة والخبرة في الوسط الحضري، وطريقة تملّك المجال هي أصدق مثالٍ على ذلك. فظاهرة "الكزرة" التي تميّز المدينة لا يمكن أن ينظر إليها كعلامة للتخلّف والفقر لأن الاحتلال غير المشروع ومبدأ البناء الذاتي أمور توجد في جميع أحياء نواكشوط. فالمجال العمومي ينتهك دائمًا وهناك بعض الأفراد الذين لا يتردّدون في توسعة حظائرهم أو إقامة الأكواخ بطريقةٍ غير مشروعة على الشاطئ".
بقدومها الأوّل طرحت "الكزرة" نمطًا جديدًا من التعامل مع ملكية الأرض عند الموريتانيين، يختلفُ عن أغلبية أنماط التعامل القديمة، فهو تعاملٌ مدينيّ لم يأتِ في أكثر حالاته لغاية المغالبة القبليّة، كما أنه لم يأتِ إلّا اضطرارًا، أي مع انعدام مُطلقٍ لأي خياراتٍ أخرى يمكن التوجّه إليها.
وتشكّل هذه السمة الأخيرة خاصيّة أساسيّة لفهم ظاهرة "الكزرة" في موريتانيا. إذ إنه وبعدَ أن كان الموريتاني القديم يسعى وراء ملكية الأرض في مساحاتٍ جغرافية شاسعة جدًا بامتدادها على مئات الكيلوميترات الخالية من السكان المُستقرّين، فإذا بالموريتاني الجديد، في سياق نواكشوط حينذاك، أصبح محشورًا في مساحاتٍ ضيّقة جدًا مأهولة بالسكان من كل الجهات، وذلك ما جعله يقيمُ في الأطراف القريبة كي لا يبتعدَ كثيرًا عن مركز المدينة المتوفّرة على بعض الخدمات الأساسيّة التي جاء إلى نواكشوط في الأصل طلبًا لها أملًا في عيشٍ كريم.
ربما كانت تسمية "الكزرة" في اللهجة الحسنية تفيد ذلك المعنى الاضطراري، فبالإضافة إلى أنها قد اشتقت من كلمة "القسر" التي تدلّ في العربية على الأخذ بالقهر والقوة، فإنها أيضًا تفيدُ اللجوء القسري الذي يأتي في ظلّ انعدام أي خيارات أخرى يمكن اللّجوء إليها. وما كان المواطن الموريتاني في تلك الحالة ليعيش في مكانٍ هامشي دون رخصٍ قانونية لو لم يكن مضطرًا لذلك. وقد كان مضطرًا كما يتضح من واقعه.
من خلال نظرةٍ متفحّصة تبدو "الكزرة" قائمةً بشكلٍ سريعٍ ومؤقت، فهشاشة مساكنها تدفع مباشرةً إلى الاعتقاد بذلك الأمر. ولعلَّ ذلك ما كان يأمله سكانها قبل أن تتفاقم ظاهرتها تفاقمًا هائلًا يدفعُ إلى القلق، ففي لجوئهم الاضطراري في البداية كانوا يتمنّون أن تكون إقامتهم مؤقتةً عندما تأتي الدولة وتسلمهم أوراقَ امتلاكٍ شرعيّة، ثم تساعدهم في بناء منازل بالقدر الذي يوفر حياةً كريمة. لكن تلك الأماني لم تتحّق أبدًا حتى اللحظة. فتأخر الدولة عن حلّ المسألة في بداية ظهورها جعلها تتضخّم وتتضخم معها معاناة السكان أيضًا.
منذ عام 1985 بدت "الكزرة" على وشك أن تصبح ممارسة تقليدية ضمن مدينة نواكشوط، فلم تقتصر فقط على ضواحي البلاد، وإنما شملت أيضًا الساحات العامة في المدينة نفسها. ولأوّل مرةً كاد الجميع يمارسون "الكزرة"، أي الامتلاك غير القانوني للأرض، فلم يعد سكان الريف السابقون والفقراء هم وحدهم من يقوم بالأمر، إذ حتى الأغنياء والمسؤولون أيضًا أصبحوا يمارسون الاستيلاء غير الشرعي على الأرض دون أن يكونوا مضطرين لذلك أبدًا.
ومع مرور الزمن أصبح الوضع صعبًا على التغيير. فـ"الكزرة" كانت لأوّل مرة قد أصبحت واقعًا مشهودًا وواضحًا بعد أن كان خافتًا وسريًا وهامشيًا في السابق. ساهم التضخّم السكاني الذي شهدته المدينة، بوتيرةٍ سريعة، في توسعها الجغرافيّ. فظهر نتيجة ذلك تنافسٌ هائلٌ يستغلّ أصحابه عن وعيٍ غياب الدولة الإجرائيّ في ممارساتهم، ليصبح الحال هو أن كلُّ من يدّعي أنَّه يملك قطعةً أرضية، وخاصّة من الميسورين في المجتمع، تُترك له بسهولةٍ كبيرة. وقد اتّضح في ما بعد، نتيجة ذلك الحال الفوضويّ، أنّ غالبية الميسورين أصبحوا يملكون أعدادًا هائلة من القطع الأرضية، بينما لا يزال بعض الفقراء يجادلون منذ زمنٍ طويل في أحقيّة امتلاكهم لقطعةٍ أرض واحدة يسكنونها.
انتشار "الكزرة" اليوم في أجزاء كثيرة من أحياء نواكشوط، جعلها متميزةً بنمطٍ من التعامل الخاص يشمل ما تحدّده شوبلين بـ"استراتيجيات النقد والمقاومة وحرب الاستنزاف" المعتمَدة من قبل السكان في سبيل المحافظة على قطعة أرضية أو تحصيل أخرى. وهي استراتيجيات تسعى لتجاوز واقع الفساد الرسميّ الذي عجز عن حلّها بتوزيعٍ عادلٍ للأرض يشملُ الجميع، دون مراعاة أيّ حدود قانونية قائمة.
هذا ما تؤكد عليه شوبلين بقولها: "فساكن نواكشوط لا يقطن المدينة "بصفةٍ صحيحة" ولا يتقيد بالقالب الحضري، ولذلك فإن "الكزرة" التي هي نظام تسيير شبه رسمي للمجال، يمكن أن تكون حلًا وجوابًا على نواقص الدولة التي برّرت المزايدات العقارية وجعلتها مصدرًا للدخل عن طريق الدورة غير النزيهة والمتمثلة في تقطيع الأرض وتوزيعها وإعادة بيعها. وهكذا فإن من يمتلك مجالًا يعيش فيه، وحتى ولو كان ذلك بطريقةٍ غير مشروعة، فإنه يثبت هويته ويكون بإمكانه أن يطالب بحقه في المدينة".
بالرغم من وصفها بتشويه وجه المدينة العمراني، من طرف بعض الخبراء والمسؤولين، إلّا أن "الكزرة" تبقى شاهدةً على تكاسلٍ رسميّ في معالجة قضية الإسكان في موريتانيا، كما تبقى شاهدةً على سمات الصراع والمقاومة والفساد والتصنيف الموجّه الذي لا يرى فيه غير مُصدّرٍ للمخالفات القانونية والكوارث الاجتماعية.