في منطقة شهدت صراعاً عليها لقرون، عاش البوسنيون وجيرانهم حروباً عديدة، خصوصاً أنهم يجاورون ممالك قوية بدءاً من مملكة المجر في القرن الحادي عشر، ثم استقلت عنها في القرن الذي يليه، ليُحكموا مجدداً من الدولة العثمانية لأكثر من أربعمئة سنة قبل أن تحتلهم الإمبراطورية النمساوية – المجرية، ليتحرّروا منها بعد الحرب العالمية الأولى ضمن دولة موّحدة باسم يوغسلافيا.
استعادة هذه المحطّات التاريخية تشكل مدخلاً مناسباً للحديث عن الأدب في البوسنة التي أنشأت دولتها الحديثة بعد انفراط عقد الاتحاد اليوغسلافي في حرب مدمرة بين مكوّناته قادت إلى استحضار أسئلة الهوية والتاريخ والثقافة، والتي تقاربها رواية "القناق: البيت الكبير" للكاتب البوسني كامل سياريتش، والصادرة مؤخراً عن "الآن ناشرون وموزعون" في عمّان ونقلها إلى العربية الباحث والمترجم الأردني إسماعيل أبو البندورة.
يتقصّى العمل مرحلة بدء أفول الحُكم العثماني في منطقة البلقان، وتنازُع السلطة مع الصرب، والحياة التي عاشها الإقطاعيون التابعون للسلطنة في هذه اللحظة؛ لحظة الأفول والانهيار، والتي يصوّرها الروائي من خلال سيرة واحد منهم في بيته الكبير المسمى بالقُناق، وعلى لسان أحد خِصيانه، الذي يستعرض الأحوال الاجتماعية والسياسية عبر سرد حياة سيّده وما يدور من أحداث في هذا البيت الكبير.
تنبني الرواية على حوار بين السيد لميش آغا وخادمه الذي يقرأ كُتب الحكيم الفارسي شيرآن ويناجيه، واتخذه مُعلماً، وبقي يناجيه حتى نهايتها، حيث يمثّل مصدراً ومُلهماً لكل الأفكار القيّمة الحكيمة والسديدة التي كانت تتجلى في الحوارات والأحداث وتعمّق مضامينها التي يسوقها الخادم كراوٍ للعمل.
وبذلك تبدو حكمة شيرآن ذريعة لتأمّل مسائل عديدة، كحياة الخدم والعبيد وعلاقتهم بأسيادهم، كما تشير مقدمة الكتاب، ومن جهة أخرى لرصد انكسارات السيد وهو في أسوأ حالات تراجعه وتقهقره المادي والمعنوي، ثم صورة المكان عندما يؤجّره نظراً إلى حاجته، ويتقاسمه مع سلطة أخرى؛ تلك السلطة الصربية الطاغية التي كانت تحتجز البشر، وتُعذّبهم على يد الجلاد كولاش، وكيفية تفسير آليات عمل السلطة المستبدّة واضطهاد البشر، كما شرحها والمتمثّلة بالتعذيب والإهانة.
يختزل سياريتش جوهر الصراع ويكثّفه من خلال محاولة السلطة متمثلة بكولاش الاعتداء على الجواري في القُناق، من خلال وعد لهن وللخادم بتقديم بعض الخدمات لهم؛ الخادم في تحقيق حلمه، لكي يذهب إلى مسقط رأسه، والجارية جانيت لتحرير شقيقها من العبودية.
يُذكر أن كامل سياريتش ولد عام 1913، ونشر أول أعماله عام 1929 في الصحيفة الطلابية "فيسنيك"، وحصل على جائزة أدبية محلية عن روايته "بيهورتسي"، كما حصل على جائزة "إيفو آندرتش" عن مجموعته القصصية "القطن الفرنسي"، ورحل عام 1989.