يأخذ انعكاس التحوّلات التكنولوجية على الثقافة حيّزاً من انشغالات الباحثين، ولعلّ من أبرز المحاور في هذا الصدد التفكير في واقع الكتاب والقراءة ومستقبلهما. وإذا كان هذا الانشغال قد افتُتح منذ منتصف القرن الماضي في الغرب، فإنه لم يتنشّط بشكل فعّال في البلاد العربية إلا في السنوات الأخيرة محكوماً في الغالب بنظرة تفجّعية أصبحت هي ذاتُها في حاجة إلى تدقيق ومراجعة.
قد تكون معارض الكتب مناسبَة ملائمة لطرح هكذا موضوع، وأيضاً لاكتشاف جوانبه بشكل ملموس باعتبار المعارض فضاءات تُلقي الضوء على تحوّلات الممارسات القرائية وواقع الكتاب وسياسات دور النشر في التفاعل مع المعطيات الجديدة.
أوّل أمس، وضمن هذا الإطار، اقترح "معرض الدار البيضاء للنشر والكتاب"، ندوة بعنوان "القراءة من الورقي إلى الرقمي" بمشاركة كلّ من الباحثة الاجتماعية نزهة بن الخياط، والباحث الأدبي سعيد يقطين، والكاتب عبده حقي، فيما أدارت النقاش بشرى زكاع. وإذا كان من الجيّد الالتفات لهذا المبحث، فإن ما يغيب عن المعرض، ومعارض الكتب العربية عموماً، هو تحويل هذا الانشغال الفكري إلى تصوّرات في هيكلة التظاهرة (تخصيص فضاءات لتكنولوجيات القراءة) وضيوفه (دور نشر إلكتروني) وبرنامجه (دعوة المهندسين والتقنيين إلى جانب الفاعلين الثقافيين).
في كلمتها، انطلقت الباحثة المغربية نزهة بن الخياط من مقولة للمفكر الكندي مارشال ماكلوهان حول "نهاية الكتاب" أطلقها منذ ستينيات القرن الماضي لتشير إلى أنه لم يقل بنهاية القراءة، معرّجة هنا إلى الحالة المغربية التي تشهد تأكيداً على انحسار الكتاب ولكنها تعفي نفسها من النظر في أشكال أخرى من ازدهار القراءة، معتمدة في ذلك على مجموعة إحصائيات وجداول بيانية قدّمتها.
هكذا ترى الباحثة المغربية إلى أن "التباكي" حول مصير القراءة ليس له مبرّراته ولا معنى له في غياب استطلاعات رأي شاملة في المغرب، وحتى سوداوية الصورة المتعلقة بالكتاب الورقي قد تكون صورة مسقطة تفنّدها الأرقام، منتقدة مقولات، بعضها تستند إلى استطلاعات جزئية، من قبيل أن المغاربة أو العرب يقرؤون صفحة أو صفحتين في السنة.
تؤكّد بن الخياط بأن تواصل نسيان دور علم الاجتماع في فهم هذه التحوّلات، ومنها بالخصوص تحوّلات مفهوم القراءة، هو التهديد الحقيقي، وأن السبيل إلى تجاوز هذه الإشكاليات هو مرونة قطاع النشر مع التحوّلات، ودراسة أنواع الطلب على الكتاب. وتشير في نهاية كلمتها إلى أن التأخّر في تقبّل تقنية الطباعة في العالم العربي، كان من أسباب تأخّر العرب حيال الغرب على المستوى الحضاري، وقد يكون رفض التفاعل مع التحوّلات الرقمية سبباً في توسيع الفجوة.
من جانبه، يرى الباحث المغربي في السرديات، سعيد يقطين، أن إكراهات القراءة الرقمية باتت موضوعاً يفرض نفسه، وهو الذي سبق وقدّم أعمالاً في هذا الإطار مثل: "من النصّ إلى النصّ المترابط.. من أجل نظريّة للإبداع التّفاعلي" (2005)، و"النصّ المترابط ومستقبل الثّقافة العربيّة نحو كتابة عربيّة رقميّة" (2008).
يؤكّد يقطين بأن مفهوم القراءة الذي نتداوله في الثقافة العربية مرتبط بما هو ورقي إذن فهو يُقصي الوسيط الرقمي. يشدّد الباحث المغربي هنا على أن الوسائط لا تلغي بعضها بل تتعايش، وبالتالي فإن الرقمي ليس سوى إضافة وسيط جديد، يحتاج منا الارتقاء بالثقافة القرائية كما نحتاج في هذا العصر الارتقاء بثقافتنا السمعية والبصرية.
يرى يقطين أن التحوّل من الورقي إلى الرقمي يفترض إعادة ترتيب للإشكاليات والمفاهيم والتصوّرات، ويضرب مثلاً بأن مشكلة المراجع والمعلومات قد تحوّل رهانها تماماً، من صعوبة الوصول إليها حين كانت تخزّن ورقياً فحسب، إلى رهان يتعلّق بحسن التفاعل معها وتنسيقها، وبات السؤال الجديد: كيف نقرأ في زمن صارت فيه المراجع لا تحصى؟
على مستوى آخر، يشير يقطين بأننا في العالم العربي لم نصل إلى مفهوم النص الرقمي بعد، وأن ما نسميه بالرقمي هو في معظمه نقل إلكتروني للورقي، أي ليس أكثر من نسخ ضوئي للنصوص الورقية.
وفي كلمته، تناول الكاتب عبده حقي خصوصيات القراءة عبر الوسائط الحديثة، منوّهاً بالخصوص إلى أن القراءة عبر الوسيط الرقمي تخترقها الكثير من الإلهاءات، حيث يمكن في أي نقطة من النص أن تستدعينا مادة أخرى، نصية أو غيرها، فتحوّل وجهتنا إلى مساحات أخرى، ويتساءل هنا: "في إطار هذه البيئة المتقلبة، هل نفقد القدرة على القراءة الرصينة؟" معتبراً أن التهديد لا يتعلّق بالقراءة بشكل عام وإنما بـ"القراءة الرصينة"، ومن ورائها سلطتنا على ذواتنا. لكنه يتساءل أيضاً: ألم تكن القراءة الرصنية أو المعمّقة دائماً تقليداً نخبوياً؟".
على مستوى آخر، يعتبر حقي بأن "القراءة الرقمية مُتعبة، ليس فقط بصرياً كما يعتقد البعض، بل ذهنياً كذلك، لأنها تطلب انتقاءً مستمراً".