يذكر المؤرخ الروماني بليني الأكبر في كتابه الموسوعي "التاريخ الطبيعي" (37 مجلداً)، أن اللوحة عند الإغريق والرومان كانت أكثر قيمة مادية من النحت، وأن اللوحات المحمولة كانت أغلى من الأعمال الجدارية، التي كانت تُعتبر في الأساس زخرفية.
ويقول: "إنه لأمر غير عادي أنه عندما ارتفع السعر الممنوح للأعمال الفنية بشكل كبير، فقد الفن نفسه حقه في احترامنا. الحقيقة هي أن هدف الفنان أصبح، كما هو الحال مع كل شخص آخر في عصرنا، كسب المال لا الشهرة كما في الأيام الخوالي، عندما كان النبلاء يعتقدون أن الفن أحد المسارات إلى المجد بل وحتى أنهم نسبوه إلى الآلهة".
منذ القرن الأول الميلادي، حين كُتبت هذه الكلمات، كان التفكير في علاقة الفن بالقيمة موضع نقاش وجدل، لكن ربما يكون قد وصل في عصرنا إلى أوجه مع اتساع سوق الفن، وتحوله إلى بضاعة بالمعنى الحرفي للكلمة، (بل وإن لتداول بعض الأعمال النفيسة في تاريخ الفن دخلاً بممارسات اقتصادية أكبر وأكثر تعقيداً، من ذلك عمليات تبييض الأموال مثلاً).
علاقة الفن بالمال هي موضوع أعمال معرض مشترك للفنانين الفرنسيين صاموئيل كوان ويان ديموجيه، يقام حالياً في "غاليري أليس مغبغب" ببيروت ويتواصل حتى 29 حزيران/ يونيو المقبل، ويحمل عنوان "من الإفلاس إلى التصاعد: منظر نقدي جديد"، حيث يقول الفنانان في بيان المعرض: "إذا كان سعر العمل الفني مهماً بالنسبة إلى الفنان، فغالباً ما يأخذ المال مكانة مركزية عند إنجاز العمل: من عملة ذهبية براقة، أو حتى فضية، من الورقة المالية إلى الرموز النقدية، تمثلات المال، مجازية كانت أم واقعية، تتقلب مع تاريخ الفن، بين أن تكون نقيصة أو إحساناً، بين التنديد والتكريس، المال يجلب القوة، القوى تحكم العالم والإنسان والفن".
في أعمال كوان "سلسلة الدولار"، يستخدم كوان العملة النقدية بقيمة دولار ويفرغها بأشكال هندسية ونباتية مختلفة، يتركها مستطيلة معلقة كلوحة على خلفية سوداء. المفارقة أن كل عمل يتكون من دولار واحد كخامة، لكنه يمكن أن يتضاعف، إذا تم بيعه، إلى عدة مئات من الدولارات.
أما في أعمال ديموجيه، فالقص واللصق والكولاج تأخذ بعداً أكثر تعقيداً، إذ يبني الفنان مدناً من العملات المختلفة. لا يخلو الأمر من إشارات إلى تاريخ الرأسمالية وكذلك الشيوعية. أيضاً، نرى الليرة السورية والروبية الإندونيسية والين الياباني وغيرها من الأوراق النقدية التي جرى إتلافها بهدف تحويلها إلى قيمة جمالية، حيث يقوم بقص ولصق الأوراق النقدية وينشئ منها مناظر طبيعية ويبني هيكل مدينة كاملة، جامعاً فيها الألوان والسياقات من ثقافات وحضارات مختلفة.
منذ سنوات، يجمع ديموجيه هذه الأوراق من جميع أنحاء العالم، وهو يرى أن "المصير الذي لا مفر منه لهذه الأوراق النقدية، على مدى فترة طويلة من الزمن، هو فقدان قيمتها المالية حيث يتم استبدالها بمجموعة جديدة. وألوانها وزخارفها هي كل ما تبقى من هذه الروائع الصغيرة المحفورة والمطبوعة على ورق ثمين".
ليس الاشتغال على النقود كخامة لعمل فني، جديداً في الفن المعاصر، ففي 2010، حاز الفنان الألماني هانز بيتر فيلدمان جائزة "هيوغو بوس" وقيمتها مائة ألف دولار، فقام بعمل تجهيز ألصق فيه على جدران متحف غوغنهايم في نيويورك، مائة ألف ورقة بقيمة دولار.
وقبل ذلك، اشتغل وارهول لمدة عشرين عاماً ما بين 1961 و1981، على الدولار، وقد جلب له العمل على "موتيف" إشارة الدولار بخلفيات لونية غنية وكثيفة أسعاراً قياسية للأعمال التي كانت مطبوعة على شاشة حريرية، بمعنى أن وارهول جنى الأرباح من خلال إعادة إنتاج رمز الدولار.
وكثيراً ما أظهر الفنانون احتقاراً للمال وجلب لهم هذا الاحتقار المزيد من الثروة، من ذلك تناقضات الفرنسي سيرج غينسبورج الذي أشعل في مقابلة تلفزيونية 500 فرنك بينما الناس تشكو من ثقل الضرائب، وأيضاً اشترى رولز رويس ليستعملها كمنفضة سجائر لأنه لا يملك رخصة قيادة، وكان يتفاخر بأنه أودع قطعة ذهب خام في أحد بنوك سويسرا، ثم نسي أي بنك.
تأخذ علاقة الفن بالمال اليوم شكلاً أكثر تعقيداً، مع ظهور مشاريع الدعم والمؤسسات المانحة والجوائز الأدبية والثقافية عالية القيمة، خاصة في منطقتنا العربية، والتي تحتاج اليوم من الفنانين إعادة نظر في علاقة عملهم الفني برأس المال وسلطة الجهة المنتجة، وربما يكون في معرض ديموجيه وكوان احتجاج بشكل أو بآخر على احتكام الفن اليوم إلى السوق وتهافت الفنان على أموال الجوائز والمؤسسات.