"العقار": ميراث الظُلمَة

16 مارس 2018
ليانور إيكستراند في "العقار" (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
فيلمٌ معقود، برُمَّته، على تألّق ممثلة غير محترفة، وحضورها الهادر، تدعى ليانور إيكستراند، هي عمّة كاتب سيناريو "العقار"، والمخرج المُشارك، ألكس باترسن (1979). لولاها، تصبح جولات امرأة عجوز بين شقق بناية، ورثتها عن أبيها، وسط العاصمة استوكهولم، من دون طعم سينمائي. أو على الأقل، تتراكم حكاياتها على الشاشة بفصول مملّة ومُنسّقة، حسب منطق حياديّ، وبلا روح.
ما فعله تجسيدها المرن والديناميكي لكائن عنيد، ولمصائره ومغامراته ووقائع حشريّته وفورات تسلّطه، ثَوَّر سرديّة الفيلم، ناقلاً إياها من فعل مكرور حول عقود إيجار، وقانونية سكن قاطني عمارة هرِمة، إلى جلسات معمّقة حول رذالات بشر وخطاياهم، وخساسات منتفعين ومتآمرين بلا حُرمات، ومهانات أناس هامشيين، يحتال عليهم القانون ويستعبدهم، ولؤم كواسر رأسمالية وضغائنها، التي تظنّ أن سطوها على ملكيّات، ونهب ريعها، يهَوِّن لها قهر مَنْ تشاء.
إلى ذلك، فرض أداء ليانور إيكستراند تبدّلاً حاسمًا في روح النصّ، حاشدًا فيها طراوة وشبابية. تصبح العصرنة ـ بفوراتها الأخلاقية، وإيقاعاتها المجنونة، وهتكها المُنظَّم للأعراف والقيم، وخروقاتها الإيديولوجية ـ مسوغات لمواجهة نظم مداهنة وقهرية وإقصائية وكيدية. بسببها (العصرنة)، اختار المخرجان ألكس باترسن ومونس مونسون (1982) الكوميديا كخطابٍ، هجائي وصلف وتدميري، لمحنة السيدة نييت، العائدة من فردوسها الإسباني إلى أرض أسوج وصقيعها، سائران بذلك على خطى كل من لوكاس موديسون في "معًا" (2000)، الذي احتفى بمجموعة يسارية وعائلات أفرادها، تقرر استعادة وجدان الكومونة الشيوعية وأمجادها، عبر تأسيس قرينة لها في السبعينيات السويدية، كبديل عن أنانية شائعة، وانغلاق جارف. وأيضًا، روبن أوسلوند في "المربع" (2017)، بشخصياته الغارقة في تَبَجُّحاتها بسلوك برجوازي مُنَفّر، لن يعصمها من ارتكاب حماقاتها بصورة مخجلة وغير متوقعة. وزميلتهما غابريلا بيشلر، في "كلّ نم مت" (2012)، الذي قارب عنصريّة متعاظمة، تفرض على الفتاة المسلمة رشا، القادمة من "جمهورية الجبل الأسود"، ووالدها المقعد، نبذًا جماعيًا مجحفًا وسورياليًا.





اختلاف "العقار" ـ المشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ68 (15 ـ 25 فبراير/ شباط 2018) لـ"مهرجان برلين السينمائي" ـ كامنٌ في ذهابه إلى مغامرات ذات آفاقٍ أوسع، وخفة أغْزَر، مُعزّزًا مقاطعها بموسيقى شعبية صاخبة، وحشد غنائي عاصف، كرّسها كرفقة سماعية باهرة، يتوازى حضورها مع كل انقلاب، يخترق شخصية الابنة العجوز، التي تبدأ رحلتها الطويلة في "قلب الظُلمَة" (1902، عنوان رواية الكاتب جوزف كونراد)، بتوجّس من سوء ظنون المستأجرين بشخصيتها ودوافعها، فتبدأ جملتها دائما بـ"أنا وارثة المُلْك"، إقرارًا بحسن نواياها، قبل أن تتكشف لها حقيقة ابتزاز نذل، يمارسه أخوها غير الشقيق وابنه الفاسد والكسول كريس ـ الذي أدّاه كريستيان سالدرت، أحد كبار مافيا العقارات في العاصمة السويدية، الذي عمل مع فريق الفيلم كمستشار، قبل اقتناعه بأداء شخصيته الحقيقية ـ وتنكيلهما المنظّم بعائلات منكوبة، "تستعمر" الطابق السابع، وتحايلهم الدؤوب على القانون.
العجوز نييت (68 عامًا) سيدة وحيدة وعزباء. لا يُعرِّف الفيلم بمحيطها السابق، أو تفاصيل عن حياتها في منفاها الصيفي، سوى أنها كانت تعيش بفضل راتبٍ تقاعد شهري. نتابع مسارات غرقها في وحدتها السويدية، وهي ساعية إلى إيجاد مخرج متوازن لصفقة بيع العقار، بمساعدة محامي والدها الراحل. تُفخّم كاميرا المخرج مونس مونسون حصارها عبر تصوير طلّتها الوحشية بلقطات مقرّبة جدًا، وبكثافة استفزازية. الحيّز يضيق حولها، كما هو حال محنتها التي ترغمها، في نهاية المطاف، على إعلان حرب شخصية ضد "كارتل" عدائي وعفن، وهي تردِّد بعصابية: "لا استسلام".
تمر السيدة نييت في 3 مستويات درامية، يتحوّل المبنى العقاري فيها إلى مطهر، يتطلّب سعيرًا عارمًا، تُشعله بتخطيط جهنمي، إذْ أن خطيئة كائناته كامنة في "عجز اتحادها مع المحبة". في مرحلة تمهيدية، تتعلّم البطلة معاني الغوث، عندما تكتشف وجود رهط من عائلات لاجئين أجانب، لا يفقهون اللغة، ولا يقتربون من قانون. بشر تحاصرهم جدران، وينال منهم خوف تهجير جديد، يدفعهم إلى رفض عروض الإخلاء، لأن إيجارات شققهم متهاودة. تقول بغضب مكتوم: "لا شيء مما أراه يجعلني سعيدة. لكني لن أضعه مسلّطًا فوق رأسي". اعتراف يقودها، في مرحلة تالية، إلى مقاربة نزاهتها وتعظيمها، عندما تجد أنّ الفضيلة في مبناها اغتالها طمّاعون أنذال. في المقطع النهائي، تقرر الاصطفاف مع نقائها، وضد إحباطها. تُلغِم مبناها بنار ضِرام، و"تُزخرف" جدران عاره بكَمّ وافر من رصاص مدفع رشاش، "معقِّمة" الإرث من نجاسات "فقاعة عقارية" سوداء ولصوصها، كأنها إرهابية اجتماعية، تجد تبرير فعلتها في "مربعها" الطبقي، واشتراطات قصاصه.
"العقار" (88 د.)، كبطلته، ساخط ومَمْسُوس وصدامي وداوٍ. يقدّم حلاً عبثيًا للانتقام من قطاع مفترٍ لا إنساني. وبحسب مونسون، فإن "وجود شخص واحد يملك عقارًا يضمّ مئات العائلات، ويتحكّم في الأقفال كلّها، مسؤولية كبيرة. عندما لا يريد ذلك الشخص تحمّلها، نكون أمام مشكلة عويصة. عالم العقارات مثير للاشمئزاز، وغدّار، وباطل".
دلالات
المساهمون