"الصوفية.. تاريخ جديد"

22 ديسمبر 2017
+ الخط -
لا تتوقف الكتابات الغربية عن الصوفية منذ قرنين على الأقل. وقد ازداد الطلب البحثي على الصوفية، باعتبارها تيارًا دينيا وحركة شعبية، خلال العقود الثلاثة الماضية، خصوصا بعدما أصبح الإسلام موضوعاً على أجندة العلاقات الدولية، بفعل الصراعات والاستقطابات السياسية والثقافية والدينية التي تهيمن على المسرح العالمي الآن. لذا يشعر المرء أحياناً بالقلق من التوظيف السياسي للجماعات الدينية في هذه الصراعات، ولا سيما الصوفية التي يتم ترويجها الآن، باعتبارها التيار المنقذ من الصراع والضياع الذي يعاينه العالم الإسلامي الآن. وقد أنتجت بعض مراكز الأبحاث الغربية أوراقاً سطحية عن الصوفية، بهدف طرحها بديلا للتيارات الإسلامية الأخرى خاصة السلفية والسلفية الجهادية.
بيد أن الدراسة التي بين أيدينا في هذه الزاوية تعد من الدراسات القليلة الرصينة التي تتعاطى مع موضوع الصوفية من منظور أكاديمي وبحثي، بعيداً عن التوظيف السياسي للموضوع، ليس فقط بسبب مؤلفها، وهو البروفيسور ألكسندر كنيش، أستاذ الدراسات الإسلامية وآسيا الوسطى في جامعة ميتشغان الأميركية، والمتخصص في حقل الدراسات الصوفية، ولكن أيضا بسبب مضمونها المثير للتأمل والتفكير. وقد تضمن الدراسة كتابٌ صدر قبل أسابيع عن دار نشر جامعة برينستون المرموقة، ومن المتوقع أن يكون لها صدى في حقل الدراسات الإسلامية خلال الشهور والسنوات المقبلة، لما تحمله من أفكار جديدة.
يتناول الكتاب موضوعات مهمة تتعلق بتاريخ الصوفية، ليس فقط تيارا أو جماعة أو حركة دينية، وإنما أيضا مفهومًا واصطلاحا، وما يثيره من إشكاليات ومسائل متعلقة بمدى عموميته ودقته، لوصف تقليد ديني معين. بيد أن أهم ما جاء في الكتاب هو النقد الشديد الذي يوجهه المؤلف للمنظور الاستشراقي للصوفية مفهوما وظاهرة. حيث يرى أن هذا التناول تعاطى مع الصوفية من خلال صناعة سردية مستقاة من الحوادث والقصص التاريخية التي يمكن أن يكون بعضها متخيلاً وبعضها واقعياً، وهو أمر يرى الكاتب أنه ليس فقط غير دقيق، وإنما أيضا غير صحيح. لذا فهو يلوم المؤرخين المستشرقين على التعاطي مع الصوفية باعتبارها ظاهرة تاريخانية، أو "اختراعا تاريخيا جاء في سياقات اجتماعية ودينية معينة"، على غرار بقية الظواهر الحديثة، كالدولة والسلطة والأحزاب.. إلخ.
بكلمات أخرى، يحاول كنيش فهم الصوفية، ليس باعتبارها ظاهرة تصنع نفسها، وإنما باعتبارها ظاهرة حيوية، تتنقل من زمن إلى آخر، ومن بلد إلى آخر. لذا فهو يقوم بتفكيك البنية الاجتماعية لها، ما يعني أننا إزاء "صوفياتٍ" متعدّدة، وليست صوفية واحدة، بحسب السياقات والتجارب التاريخية المختلفة. وهو أمر جديد في هذه المسألة، حيث يسود اعتقاد بين باحثين كثيرين أن الصوفية، شأنها في ذلك شأن السلفية، ظاهرة تقليدية ساكنة لا تتغير.
وبالعودة إلى كتابات كنيش عن الموضوع، لكن في سياقات أخرى، نجد أنه يحاول أن يقدم طرحاً مختلفاً للصوفية. فعلى سبيل المثال، له دراسة شهيرة عن ابن عربي، أحد أهم الرموز الصوفية، محاولاً تفكيك نظرته للتصوف وفهمها. وهي من الدراسات الأولى والرائدة في الغرب عن ابن عربي، ونشرت قبل أكثر من عشرين عاماً. وله دراسة أخرى عن التصوّف في القرون الأولى للإسلام، وكيف نشأ وتطور خلال تلك القرون. لذا فهو عندما يقوم بتفكيك التصوّف، ظاهرة ومفهوماً، فهو ينطلق من أرضية معرفية واسعة بتاريخ التصوّف، وسياقات ظهوره وتحولاته، منذ الجذور. وهو يهتم بتفكيك الخطاب الصوفي في مختلف هذه المراحل والسياقات، ما يجعل دراسته جديرة بالنظر والاشتباك الفكري معها.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".